للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

• وقال وهيب المكي : الزهد في الدنيا: أن لا تأسى على ما فاتك منها، ولا تفرح بما أتاك منها. [الحلية (تهذيبه) ٣/ ٣٠].

• وقال يوسف بن أسباط : الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الدنيا. [الحلية (تهذيبه) ٣/ ٥٧].

(جـ) ذم الركون إلى الدنيا والفرح بمتاعها (١):

• عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لبست مرة درعًا لي جديدًا،


(١) ذكر ابن القيم عدة أمثلة تبين حقيقة الدنيا، أكتفي بثلاثة أمثلة، قال :

المثال الخامس عشر: رجل هيأ داراً وزينها ووضع فيها من جميع الآلات ودعا الناس إليها: فكلما دخل داخل أجلسه على فراش وثير وقدم إليه طبقًا من ذهب عليه لحم، ووضع بين يديه أوان مفتخرة فيها من كل ما يحتاج إليه وأخدمه عبيده فاستمتع بتلك الآلات والضيافة مدة مقامه في الدار، ولم يعلق قلبه بها ولا حدث نفسه بتملكها، بل اعتمد مع صاحب الدار ما يعتمده الضيف يجلس حيث أجلسه، ويأكل ما قدمه له ولا يسأل عما وراء ذلك اكتفاء منه بعلم صاحب الدار وكرمه وما يفعله مع ضيوفه، فدخل الدار كريمًا وتمتع فيه كريمًا وفارقها كريمًا، ورب الدار غير ذام له وأما الأحمق، فحدث نفسه بسكني الدار وحوز تلك الآلات إلى ملكه وتصرفه فيها بحسب شهوته وإرادته، فتخير المجلس لنفسه وجعل ينقل تلك الآلات إلى مكان في الدار يخبؤها فيه، وكلما قدم إليه ربها شيئًا أو آلة حدث نفسه بملكه واختصاصه به عن سائر الأضياف، ورب الدار يشاهد ما يصنع وكرمه يمنعه من إخراجه من داره حتى إذا ظن أنه قد استبد بتلك الآلات وملك الدار وتصرف فيها وفي آلاتها تصرف المالك الحقيقي واستوطنها واتخذها دارًا له أرسل إليه مالكها عبيده فأخرجوه منها إخراجا عنيفًا وسلبوه كل ما هو فيه ولم يصحبه من تلك الآلات شيء وحصل على مقت رب الدار له وافتضاحه عنده وبين مماليكه وحشمه وخدمه فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل فإنه مطابق للحقيقة والله المستعان.
المثال السادس عشر: قوم سلكوا مفازة فاجأهم العطش فانتهوا إلى البحر وماؤه أمر شيء وأملحه فلشدة عطشهم لم يجدوا طعم مرارته وملوحته فشربوا منه فلم يرووا، وجعلوا كلما ازداد شرباً ازدادوا ظمأ حتى تقطعت أمعاؤهم وماتوا عطشًا، وعلم عقلاؤهم أنه مر مالح وأنه كلما ازداد الشارب منه ازداد ظمؤه فتباعدوا عنه مسافة حتى وجدوا أرضا حلوة فحفروا فيها قليبا فنبع لهم ماء عذب فرات فشربوا وعجنوا وطبخوا ونادوا إخوانهم الذين على حافة البحر: هلموا إلى الماء الفرات، وكان منهم المستهزئ، ومنهم المعرض الراضي بما هو فيه، وكان المجيب واحدًا بعد واحد. وهذا المثل بعينه قد ضربه المسيح فقال: (مثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر كلما ازاداد شربًا ازداد عطشًا حتى يقتله).

المثال السابع عشر: مثل الإنسان ومثل ماله وعشيرته وعمله مثل رجل له ثلاثة إخوة فقضى له سفر بعيد طويل لابد له منه، فدعا إخوته الثلاثة وقال: قد حضر ما ترون من هذا السفر الطويل وأحوج ما كنت إليكم الآن، فقال أحدهم: أنا كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلست بأخ ولا صاحب وما عندي غير هذا، فقال له: لم تغن عني شيئًا، فقال للآخر: ما عندك؟ فقال: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك وتركب راحلتك ومن هنالك لست لك بصاحب، فقال له: أنا محتاج إلى مرافقتك في مسيري، فقال: ما عندك أنت؟ فقال: كنت صاحبك في صحتك ومرضك وأنا صاحبك الآن وصاحبك إذا ركبت راحلتك وصاحبك في مسيرك فإن سرت سرت معك وإن نزلت نزلت معك وإذا وصلت إلى بلدك كنت صاحبك فيها لا أفارقك أبدا، فقال: إن كنت لأهون الأصحاب علي وكنت أوثر عليك صاحبيك فليتني عرفت حقك وآثرتك عليهما. فالأول: ماله، والثاني: أقاربه وعشيرته وأصحابه، والثالث: عمله.
المثال الثامن عشر: وهو من أحسن الأمثلة: ملك بنى دارا لم ير الراؤون ولم يسمع السامعون أحسن ولا أوسع ولا أجمع لكل ملاذ النفوس منها، ونصب إليها طريقًا وبعث داعيًا يدعو الناس إليها وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زينت بأنواع الزينة وألبست أنواع الحلي والحلل وممر الناس كلهم عليها وجعل لها أعوانًا وخدمًا وجعل تحت يدها ويد أعوانها زادا للمارين السائرين إلى الملك في تلك الطريق، وقال لها ولأعوانها: من غض طرفه عنك ولم يشتغل بك عني وابتغى منك زادا يوصله إلي فاخدميه وزوديه ولا تعوقيه عن سفره إلي، بل أعينيه بكل ما يبلغه في سفره ومن مد إليك عينيه ورضى بك وآثرك على وطلب وصالك فسوميه سوء العذاب وأوليه غاية الهوان، واستخدميه واجعليه يركض خلفك ركض الوحش، ومن يأكل منك فاخدعيه به قليلًا ثم استرديه منه واسلبيه إياه كله وسلطي عليه أتباعك وعبيدك، وكلما بالغ في محبتك وتعظيمك وإكرامك فقابليه بأمثاله قلى واهنة وهجرا حتى تتقطع نفسه عليك حسرات. عدة الصابرين / ٢٧٦

<<  <   >  >>