١ - مشهد الحكمة: وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه، ويكرهه ويلوم ويعاقب عليه، وأنه لو شاء لعصمه منه، ولحال بينه وبينه، وأنه سبحانه لا يُعصى قَسْرًا، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤]. وقد قال تعالى لملائكته لما قالوا ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] فأجابهم سبحانه بقوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠].
فكم من آية في الأرض بينه دالة على الله، وعلى صدق رسله، وعلى أن لقاء الله حق: كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم، كآيته في إغراق قوم نوح، وعلو الماء على رؤوس الجبال حتى أغرق جميع أهل الأرض، ونجى أوليائه وأهل معرفته وتوحيده، وكذلك إهلاكه قوم عاد، وثمود، وفرعون وقومه، لولا كفرهم ومعاصيهم لم تظهر تلك الآيات والعجائب. وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم. وكذلك اتخاذ الله تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم، بسبب صبرهم على أذى بني آدم من أهل المعاصي والظلم، ومجاهدتهم في الله. ويكفي من هذا مثال واحد: وهو أنه لولا المعصية من أبي البشر بأكله من الشجرة: لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى، من امتحان خلقه وتكليفهم، وإرسال رسله، وإنزال كتبه، وإظهار آياته وعجائبه. ٢ - مشهد التوحيد: وهو أن يشهد انفراد الرب تعالى بالخلق والحكم، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، وأن الخلق مقهورون تحت قبضته. ٣ - مشهد التوفيق والخذلان: وقد أجمع العارفون بالله على أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك. فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه: علم شدة ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كلِّ نَفَس، وكل لحظة، وطرفة عين. ٤ - مشهد الرحمة: فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة، والكيفية الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب، حتى لو قدر عليه لأهلكه، وربما دعا الله عليه أن يهلكه ويأخذه غضبا منه لله، فلا يجد في قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين، ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء، ولا يذكرهم إلا بلسان الطعن فيهم والعيب لهم والذم، فإذا جرت عليه المقادير وخُلِّيَ ونفسه: استغاث الله، والتجأ إليه، ودعاه دعاء المضطر، فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين: رقة، وتلك القساوة: رحمة ولينا، مع قيامه بحدود الله، وتبدَّل دعاؤه عليهم دعاءً لهم، فيورثه ذلك: ٥ - مشهد الضعف والعجز وأنه عاجز عن حفظ نفسه، وأنه لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه. والعبد مُلقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس والجن، فإن حماه منهم وكفَّهم عنه: لم يجدوا إليه سبيلا، وإن تخلى عنه ووكَلَه إلى نفسه طرفة عين، فهو نصيب من ظفر به منهم، وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقًا ويعرف ربه. فحينئذ يطلع منه على: ٦ - مشهد الذل والانكسار، والخضوع والافتقار لله تعالى: فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء، فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلا منه ولا كثيرًا. فإذا استبصر في هذا المشهد، وتمكن من قلبه، ترقّى منه إلى: ٧ - مشهد العبودية والمحبة، والشوق إلى لقائه، والفرح والسرور به، فتقر به عينه، ويسكن إليه قلبه، وتطمئن إليه جوارحه، ويستولى ذكره على لسانه وقلبه، فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية، وحركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي، فإن هذه الكسرة لها تأثير عجيب في المحبة لا يُعبر عنه. وكان شيخ الإسلام يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية. ا. هـ بتصرف. مدارج السالكين ١/ ٦٩٠ - ٧٤٢