عَدَالَتَهُ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا دُونَهَا كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إذَا أَبَقَ يَنْعَزِلُ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ وَهُوَ آبِقٌ جَازَ، وَعَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَصْلُحُ قَاضِيًا وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ وَأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَكَذَا الِاجْتِهَادُ حَتَّى لَوْ وَلِيَ الْجَاهِلُ الْقَضَاءَ صَحَّ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَدْلًا مَأْمُونًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ» الْحَدِيثَ فَفَسَّرَ الْقَاضِيَيْنِ أَحَدَهُمَا جَاهِلٌ يَحْكُمُ بِالْجَهْلِ وَالْآخَرُ عَالِمٌ يَحْكُمُ بِالْجَوْرِ وَالثَّالِثُ الْعَالِمُ الْعَادِلُ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ وَالْجَاهِلُ عَاجِزٌ عَنْهُ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَلَا يَجُوزُ.
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمَّاهُ قَاضِيًا، وَلَوْلَا أَنَّ التَّوْلِيَةَ تَصِحُّ لَمَا سَمَّاهُ قَاضِيًا وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجَازُوا حُكْمَ مَنْ تَغَلَّبَ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَجَارَ وَتَقَلَّدُوا مِنْهُ الْأَعْمَالَ وَصَلَّوْا خَلْفَهُ، وَلَوْلَا أَنَّ تَوْلِيَتَهُ صَحِيحَةٌ لَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْفَاسِقُ يَصْلُحُ مُفْتِيًا وَقِيلَ لَا) يَصْلُحُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ، وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ حَذَارِ النِّسْبَةِ إلَى الْخَطَأِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ فَظًّا غَلِيظًا جَبَّارًا عَنِيدًا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِهِ فِي عَفَافِهِ وَعَقْلِهِ وَصَلَاحِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَوُجُوهِ الْفِقْهِ) وَيَكُونُ شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ دَفْعُ الْفَسَادِ وَإِيصَالُ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَإِقَامَةِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَقْوَى وَاجِبٍ عَلَيْهِمْ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ وَأَقْدَرَ وَأَوْجَهَ وَأَهْيَبَ وَأَصْبَرَ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى وَيَنْبَغِي لِلْمَوْلَى أَنْ يَتَفَحَّصَ فِي ذَلِكَ وَيُوَلِّي مَنْ هُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ».
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالِاجْتِهَادُ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ) لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الِاجْتِهَادِ قِيلَ أَنْ يَعْلَمَ الْكِتَابَ بِمَعَانِيهِ وَالسُّنَّةَ بِطُرُقِهَا وَالْمُرَادُ بِعِلْمِهِمَا عِلْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ مِنْهُمَا وَمَعْرِفَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ لِيُمْكِنَهُ اسْتِخْرَاجُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَاسْتِنْبَاطُهَا مِنْ أَدِلَّتِهَا بِطَرِيقِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْفُرُوعِ الَّتِي اسْتَخْرَجَهَا الْمُجْتَهِدُونَ بِآرَائِهِمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُشْتَرَطُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى اجْتِهَادِ السَّلَفِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ حَفِظَ الْمَبْسُوطَ وَمَذْهَبَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يُقَالَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ لِيَعْرِفَ مَعَانِيَ الْآثَارِ أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ كَيْ لَا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقِيلَ لَا بُدَّ مَعَ هَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ يَعْرِفُ بِهَا عَادَاتِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ تُبْتَنَى عَلَيْهَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْمُفْتِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَكَذَا) يَعْنِي فِي الْعِلْمِ وَالْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى الْمَقْصُودِ وَأَبْعَدُ مِنْ الْغَلَطِ وَأَكْثَرُ اهْتِمَامًا فِي دِينِهِ عِنْدَ تَجَدُّدِ الْحَوَادِثِ فَيَكُونُ كَلَامُهُ أَوْثَقَ فَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَكُرِهَ التَّقَلُّدُ لِمَنْ خَافَ الْحَيْفَ) أَيْ الظُّلْمَ كَيْ لَا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى مُبَاشَرَةِ الظُّلْمِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ أَمِنَهُ لَا) أَيْ إنْ أَمِنَ الظُّلْمَ لَا يُكْرَهُ التَّقَلُّدُ لِأَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يَسْأَلُ الْقَضَاءَ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ مِنْ السَّمَاءِ يُسَدِّدُهُ ولِأَنَّ مَنْ طَلَبَهُ يَعْتَمِدُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُحْرَمُ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ فَيُلْهَمُ» وَكَرِهَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْقَضَاءِ مُخْتَارًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ لَا يُمْكِنُهُ إلَّا بِأَعْوَانٍ وَقَدْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَكَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً تُرْجَى لَهُ النُّبُوَّةُ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْقَضَاءِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
خِلَافٍ إلَى هُنَا لَفْظُ الْخُلَاصَةِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَالْفَاسِقُ يَصْلُحُ مُفْتِيًا) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ النَّاطِفِيُّ فِي آخَرِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ كِتَابِ الْأَجْنَاسِ الْفَقِيهُ إذَا كَانَ فَاسِقًا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى مِنْهُ فِيهِ كَلَامٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ فِي نَوَادِرِهِ سَمِعْت بِشْرَ بْنَ غَيَّاثٍ يَقُولُ أَرَى الْحَجْرَ عَلَى ثَلَاثَةٍ: فَقِيهٍ فَاسِقٍ وَطَبِيبٍ جَاهِلٍ وَمُكَارٍ مُفْلِسٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ فِي قَوْلِ نَفْسِهِ لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مِنْ الْفَقِيهِ الْفَاسِقِ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُخَطِّئَهُ الْفُقَهَاءُ فَيُجِيبُ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ فَظًّا) أَيْ جَافِيًا. اهـ. (قَوْلُهُ غَلِيظًا) أَيْ شَدِيدًا فِي الْكَلَامِ مُتَفَاحِشًا. اهـ. (قَوْلُهُ جَبَّارًا) أَيْ مُتَكَبِّرًا مُقْبِلًا بِغَضَبٍ. اهـ. (قَوْلُهُ عَنِيدًا) أَيْ مُعَانِدًا عَنِيفًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ دَفْعُ الْفَسَادِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِعَيْنِهَا فَسَادٌ. اهـ. عَيْنِيٌّ.
(قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِعِلْمِهِمَا عِلْمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ) أَيْ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ كَيْ لَا يَشْتَغِلَ بِالْقِيَاسِ فِي الْمَنْصُوصِ إلَخْ) وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ أَنَّ الْأَوَّلَ مُشْتَهِرٌ بِالْحَدِيثِ وَلَهُ فِقْهٌ أَيْضًا، وَالثَّانِي مُشْتَهِرٌ بِالْفِقْهِ وَلَهُ بَصَرٌ بِالْحَدِيثِ أَيْضًا. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ) عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ بِتَخْفِيفِ الْكَافِ أَيْ فُوِّضَ أَمْرُهُ إلَيْهَا وَمَنْ فُوِّضَ أَمْرُهُ إلَى نَفْسِهِ كَانَ مَخْذُولًا غَيْرَ مُرْشَدٍ لِلصَّوَابِ لِكَوْنِ النَّفْسِ أَمَارَةً بِالسُّوءِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَقَدْ لَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ فَلَعَلَّهُ يُخْطِئُ ظَنُّهُ، فَلَا يُوَفَّقُ لَهُ. اهـ. .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute