وَيَعُودُ الْمَرِيضَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ: إذَا دَعَاهُ أَنْ يُجِيبَهُ وَإِذَا مَرِضَ أَنْ يَعُودَهُ وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَحْضُرَهُ وَإِذَا لَقِيَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَإِذَا اسْتَنْصَحَهُ أَنْ يَنْصَحَهُ وَإِذَا عَطَسَ أَنْ يُشَمِّتَهُ» وَحَقُّ الْمُسْلِمِ لَا يَسْقُطُ بِالْقَضَاءِ لَكِنْ لَا يُطِيلُ مُكْثَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَرِيضِ خُصُومَةٌ مَعَ أَحَدٍ لَا يَعُودُهُ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا جُلُوسًا وَإِقْبَالًا) أَيْ يُسَوِّي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْجُلُوسِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ» وَلِأَنَّهُ إذَا قَدَّمَ أَحَدَهُمَا يَجْتَرِئُ عَلَى خَصْمِهِ وَتَنْكَسِرُ هِمَّةُ صَاحِبِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَرْكِ حَقِّهِ وَيَنْبَغِي لِلْخَصْمَيْنِ إذَا حَضَرَا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَنْ يَجْثُوَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يَتَرَبَّعَانِ، وَلَا يُقْعِيَانِ، وَلَا يَحْتَبِيَانِ، وَإِنْ فَعَلَا ذَلِكَ مُنِعَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْحُكْمِ كَمَا يَجْلِسُ الْمُتَعَلِّمُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُعَلِّمِ تَعْظِيمًا لَهُ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَاضِي قَدْرُ ذِرَاعَيْنِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ كَلَامَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ بِإِصْغَاءٍ أَوْ رَفْعِ صَوْتٍ، وَلَا يَقْعُدُ أَحَدُهُمَا مِنْ جَانِبِ الْيَمِينِ وَالْآخَرُ مِنْ الْيَسَارِ؛ لِأَنَّ جَانِبَ الْيَمِينِ أَفْضَلُ فَيَكُونُ تَقْدِيمًا لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ فِيهِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالرَّعِيَّةِ وَبَيْنَ الدَّنِيِّ وَالشَّرِيفِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَى الْمَلِكِ الَّذِي وَلَّاهُ الْقَضَاءَ، وَكَذَا فَعَلَ شُرَيْحٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِعَلِيٍّ مَعَ خَصْمِهِ، وَاحِدٌ مِنْ الرَّعِيَّةِ وَعَلِيٌّ خَلِيفَةٌ فَإِذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْفِعْلِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيمَا يَجِدُهُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِهِمَا بَعْدَ أَنْ حَكَمَ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلْيَتَّقِ عَنْ مَسَارَّةِ أَحَدِهِمَا وَإِشَارَتِهِ وَتَلْقِينِ حُجَّتِهِ وَضِيَافَتِهِ) أَيْ يَجْتَنِبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تُهْمَةً وَمَكْسَرَةً لِقَلْبِ الْآخَرِ، وَلَوْ أَضَافَهُمَا جُمْلَةً، فَلَا بَأْسَ لِوُجُودِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْمِزَاحِ) أَيْ يَجْتَنِبُ الْمِزَاحَ مُطْلَقًا مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ مَعَ غَيْرِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَلَا يُكْثِرُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِالْمَهَابَةِ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمَا بِغَيْرِ مَا تَقَدَّمَا إلَيْهِ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِذَا حَضَرَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَدَأَهُمَا بِالْكَلَامِ فَقَالَ مَا لَكُمَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا حَتَّى يَبْدَآهُ بِالْمَنْطِقِ وَهُوَ أَحْسَنُ كَيْ لَا يَكُونَ مُهَيِّجًا لِلْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ قَعَدَ لِقَطْعِهَا وَإِذَا تَكَلَّمَ الْمُدَّعِي أَسْكَتَ الْآخَرَ وَاسْتَمَعَ حَتَّى يَفْهَمَ مَا يَقُولُ فَإِذَا فَرَغَ الدَّعْوَى أَمَرَهُ بِالسُّكُوتِ وَاسْتَنْطَقَ الْآخَرَ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ وَقِيلَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَكَلَّمَا جُمْلَةً لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَهْمِ هَذَا إذَا كَانَتْ دَعْوَاهُ صَحِيحَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً قَالَ لَهُ قُمْ فَصَحِّحْ دَعْوَاك لِأَنَّ الْجَوَابَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بَعْدَ تَصْحِيحِ الدَّعْوَى فَإِذَا صَحَّتْ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ طَلَبَ الْمُدَّعِي يَمِينَهُ وَيُرَتِّبُ النَّاسَ فِي الْفَصْلِ عَلَى تَرْتِيبِ مَجِيئِهِمْ فَيَبْدَأُ بِالسَّابِقِ فَالسَّابِقِ وَيَجْعَلُ فِي ذَلِكَ أَمِينًا يُخْبِرُهُ، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فِي زَحْمَةٍ بَلْ يَجْعَلُ الرِّجَالَ نَاحِيَةً وَالنِّسَاءَ نَاحِيَةً إلَّا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَعْوًى فَيَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقْتَ الدَّعْوَى.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَلْقِينِ الشَّاهِدِ) أَيْ يَجْتَنِبُ تَلْقِينَ الشَّاهِدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَيُوهِمُ الْمَيْلَ إلَيْهِ فَيَكُونُ فِيهِ كَسْرُ قَلْبِ الْآخَرِ فَصَارَ كَتَلْقِينِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْصَرُ وَقَدْ يَقُولُ أَعْلَمُ مَكَانَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ لِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ فَكَانَ فِي تَلْقِينِهِ إحْيَاءَ الْحَقِّ، وَلَا تُهْمَةَ فِي مِثْلِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ كَإِشْخَاصِ الْغَرِيمِ وَتَكْفِيلِهِ وَحَيْلُولَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَهَذَا نَوْعُ رُخْصَةٍ عِنْدَهُ رَجَعَ إلَيْهِ بَعْدَ مَا تَوَلَّى الْقَضَاءَ وَالْعَزِيمَةَ فِيمَا قَالَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تُهْمَةٍ.
(فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ) وَلَمَّا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِسَبَبِ دَعَارَتِهِ، وَالْحَبْسُ يَصْلُحُ لِلْعُقُوبَةِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ وَجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَتِهِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: ٣٣] وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَبْسُ، وَأَمَّا السُّنَّةُ؛ فَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ وَحَبَسَ رَجُلًا آخَرَ مِنْ جُهَيْنَةَ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ»، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ؛ فَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَمْ يَكُنْ سِجْنٌ وَكَانَ يُحْبَسُ فِي الْمَسْجِدِ وَالدِّهْلِيزِ وَبِالرُّبُطِ وَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا جُلُوسًا وَإِقْبَالًا) قَوْلُهُ وَإِقْبَالًا سَاقِطٌ فِي خَطِّ الشَّارِحِ، وَلَكِنْ ثَابِتٌ فِي نُسَخِ الْمَتْنِ، وَهُوَ مُلْحَقٌ لَا بُدَّ مِنْهُ (قَوْلُهُ الدَّنِيِّ) يَعْنِي الذِّمِّيَّ كَذَا فِي شَرْحِ الْعَيْنِيِّ (قَوْلُهُ وَإِشَارَتُهُ) أَيْ بِيَدِهِ أَوْ عَيْنِهِ أَوْ حَاجِبِهِ اهـ (قَوْلُهُ وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ) أَيْ كَمَا إذَا تَرَكَ الشَّاهِدُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ مَثَلًا أَمَّا فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ، فَلَا كَمَا إذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشُهِدَ الشَّاهِدُ بِأَلْفٍ فَلَقَّنَهُ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ فَتَلَقَّنَ الشَّاهِدُ ذَلِكَ وَوُفِّقَ. اهـ. .
[فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ]
(فَصْلٌ فِي الْحَبْسِ) (قَوْلُهُ وَحَبَسَ رَجُلًا آخَرَ مِنْ جُهَيْنَةَ أَعْتَقَ شِقْصًا إلَخْ) لَعَلَّهُ يُشِيرُ إلَى مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُجْزَلٍ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ بَلْ تَابِعِيٌّ وَاسْمُهُ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَّ «عَبْدًا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَحَبَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ» فَهُوَ مُرْسَلٌ وَيُمْكِنُ فِي وَجْهِ حَبْسِهِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ فَحَبَسَهُ حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ وَدَفَعَ قِيمَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute