للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ التَّذْكِيَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: ٣] وَحَرَّمَ الْمُنْخَنِقَةَ، وَالْجَنِينُ مَاتَ خَنْقًا فَيَحْرُمُ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْحَيَاةِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ فَوَجَبَ إفْرَادُهُ بِالذَّكَاةِ لِيَخْرُجَ الدَّمُ عَنْهُ فَيَحِلَّ بِهِ، وَلَا يَحِلَّ بِذَكَاةِ غَيْرِهِ إذْ الْمَقْصُودُ بِالذَّكَاةِ إخْرَاجُ دَمِهِ لِيَتَمَيَّزَ مِنْ اللَّحْمِ فَيَطِيبَ وَلَا يَكُونَ تَبَعًا لَهَا وَلِهَذَا تَفَرَّدَ بِإِيجَابِ الْغُرَّةِ، وَيَقْبَلُ الْعِتْقَ وَحْدَهُ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَبِهِ مُنْفَرِدًا فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَبَعًا لِأُمِّهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ وَهُوَ إخْرَاجُ دَمِهِ بِخِلَافِ جَرْحِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ مُخْرِجٌ لِلدَّمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَيَقُومُ مَقَامَ الذَّبْحِ عِنْدَ الْعَجْزِ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ جُزْءًا لِلْأُمِّ لَحَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ خَلْقُهُ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْأُمِّ مَأْكُولٌ فَلَمَّا لَمْ يُؤْكَلْ قَبْلَ تَمَامِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِجُزْءٍ لَهَا وَمَا رَوَوْهُ لَا يُعَارِضُ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ، أَوْ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ - إنْ صَحَّ التَّشْبِيهُ - أَيْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ كَذَكَاةِ أُمِّهِ وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَاشٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: ١٣٣]

وَيُقَالُ زَيْدٌ أَسَدٌ أَيْ زَيْدٌ كَأَسَدٍ قَالَ الشَّاعِرُ:

فَعَيْنَاكِ عَيْنَاهَا وَجِيدُكِ جِيدُهَا ... وَلَكِنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْكِ دَقِيقُ

أَيْ كَعَيْنَيْهَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى بِذَكَاةِ الْأُمِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُرْوَى " ذَكَاةَ أُمِّهِ " بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ يُذَكَّى ذَكَاةً مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّفْعِ التَّشْبِيهُ، وَإِلَّا لَفَسَدَ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ هُوَ ذَكَاةٌ لِلْأُمِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ وَيُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذَكَاةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " ذَكَاةُ الْجَنِينِ " مُبْتَدَأٌ وَذَكَاةُ أُمِّهِ خَبَرٌ فَيَفْسُدُ الْمَعْنَى لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ إنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ تُغْنِي عَنْ ذَكَاةِ الْأُمِّ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: كَلَامُ زَيْدٍ كَلَامُ الْقَوْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى كَلَامِهِمْ

وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ إذَا كَانَا مَعْرِفَتَيْنِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمُبْتَدَأِ وَتَأْخِيرُ الْخَبَرِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ هُوَ الْمُبْتَدَأُ وَالْمُتَأَخِّرَ الْخَبَرُ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِهَا جَنِينٌ مَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: ٣٠] أَيْ اذْبَحُوهُ وَكُلُوهُ وَهَذَا مِثْلُ مَا يُرْوَى «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَذِنَ فِي أَكْلِ لَحْمِ الْخَيْلِ» أَيْ إذَا ذُبِحَ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا عُرِفَ شُرُوطُهُ وَذُكِرَ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: ٧٨] أَيْ بِشُرُوطِهَا، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْجَنِينُ فِي الْبَيْعِ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِاسْتِثْنَائِهِ، وَإِنَّمَا يَعْتِقُ بِإِعْتَاقِهَا كَيْ لَا يَنْفَصِلَ مِنْ الْحُرَّةِ وَلَدٌ رَقِيقٌ وَلَا يُقَالُ لَوْ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ لَمَا حَلَّ ذَبْحُ أُمِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْوَلَدِ «وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ» لِأَنَّا نَقُولُ مَوْتُهُ لَا يُتَيَقَّنُ بِهِ بَلْ يُتَوَهَّمُ إدْرَاكُهُ حَيًّا فَيُذْبَحُ فَلَا يَحْرُمُ، أَوْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَحْمُ الْأُمِّ فَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِهِ فَكَانَ قَتْلُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّوَصُّلِ إلَى الْمَقْصُودِ كَمَا إذَا تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِالْمُسْلِمِينَ فَمَا ظَنُّكَ بِالْأَجِنَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ فِيمَا يَحِلُّ وَمَا لَا يَحِلُّ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لَا يُؤْكَلُ ذُو نَابٍ وَمِخْلَبٍ مِنْ سَبُعٍ وَطَيْرٍ) أَيْ لَا يَحِلُّ أَكْلُ ذِي نَابٍ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالسِّبَاعُ جَمْعُ سَبُعٍ وَهُوَ كُلُّ مُخْتَطِفٍ مُنْتَهِبٍ جَارِحٍ قَاتِلٍ عَادٍ عَادَةً وَالْمُرَادُ بِذِي مِخْلَبٍ مَا لَهُ مِخْلَبٌ هُوَ سِلَاحٌ وَهُوَ مَفْعَلُ مِنْ الْخَلْبِ وَهُوَ مَزْقُ الْجِلْدِ وَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِي مِخْلَبٍ هُوَ سِبَاعُ الطَّيْرِ لَا كُلُّ مَا لَهُ مِخْلَبٌ.

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ: إنْ صَحَّ التَّشْبِيهُ) قَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذَا بُعْدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّقْدِيرِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهُ أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ الْمَحْفُوظَةِ فَذَكَاةُ الْجَنِينِ خَبَرٌ لِمَا بَعْدَهُ أَيْ ذَكَاةُ أُمِّ الْجَنِينِ ذَكَاةٌ لَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيّ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ» وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ إنْ ثَبَتَ فَبِأَنْ يُجْعَلَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ كَمَا فِي: جِئْتُك طُلُوعَ الشَّمْسِ أَيْ وَقْتَ طُلُوعِهَا وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ حَاصِلَةٌ وَقْتَ ذَكَاةِ أُمِّهِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَعْنَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ الَّذِي ذَكَرْنَا. اهـ. مُجْتَبَى وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّشْبِيهُ بِحَذْفِ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَهُوَ أَبْلَغُ وُجُوهِ التَّشْبِيهِ كَقَوْلِك زَيْدٌ أَسَدٌ أَيْ ذَكَاةُ الْحَنِينِ كَذَكَاةِ أُمِّهِ كَقَوْلِهِمْ صَوْتُهُ صَوْتُ الْأَسَدِ وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ.

[فَصْلٌ فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلُّ]

(فَصْلٌ: فِيمَا يَحِلُّ وَمَا لَا يَحِلُّ) لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامِ الذَّبَائِحِ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ الْمَأْكُولِ مِنْهَا وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ؛ إذْ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِيَّةِ الذَّبْحِ التَّوَصُّلُ إلَى الْأَكْلِ وَقَدَّمَ الذَّبْحَ لِأَنَّهُ شَرْطُ الْمَأْكُولِ وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ قَالَهُ الْكَاكِيُّ وَقَالَ الْأَتْقَانِيُّ لَمَّا كَانَ لِلذَّكَاةِ حُكْمَانِ فِي الْمَذْبُوحِ: حِلُّ الذَّبِيحَةِ فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ فِي اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ فِيمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إلَّا الْآدَمِيَّ وَالْخِنْزِيرَ - فَإِنَّهُ لَا تَلْحَقُ الذَّكَاةُ بِهِمَا - ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلُّ وَكَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يَذْكُرَ مَسَائِلَ هَذَا الْفَصْلِ جَمِيعَهَا فِي كِتَابِ الصَّيْدِ لِأَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الصَّيْدِ إلَّا الْفَرَسَ وَالْبَغْلَ وَالْحِمَارَ اهـ. (قَوْلُهُ: «نَهَى عَنْ أَكَلَ كُلِّ ذِي نَابٍ» إلَخْ) قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي السِّنْجَابِ وَالْفَنَكِ وَالسَّمُّورِ وَالدَّلَقِ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا سَبُعٌ مِثْلُ الثَّعْلَبِ وَابْنِ عِرْسٍ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ النَّابِ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ. اهـ. غَايَةٌ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ كُلُّ مُخْتَطِفٍ مُنْتَهِبٍ) وَالِاخْتِطَافُ بِمَعْنَى الْخَطْفِ وَالِانْتِهَابُ بِمَعْنَى النَّهْبِ قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاخْتِطَافَ مِنْ فِعْلِ الطَّيْرِ وَالِانْتِهَابَ مِنْ فِعْلِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فَلَمَّا كَانَ السَّبُعُ شَامِلًا لِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ فُسِّرَ السَّبُعُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ، وَالْعَادِي مِنْ عَدَا عَلَيْهِ عُدْوَانًا. اهـ. غَايَةٌ. (قَوْلُهُ: هُوَ سِلَاحٌ) وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ كُلَّ صَيْدٍ لَا يَخْلُو عَنْ مِخْلَبٍ اهـ اق.

<<  <  ج: ص:  >  >>