لِأَخِيهِ الْمَحْجُوبِ بِابْنِهِ ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ وَقَوْلُهُ إنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ رَاجِعٌ إلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ الْوَصِيَّةُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلِلْقَاتِلِ وَلِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْكُلِّ لِحَقِّهِمْ فَتَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمْ.
أَلَا تَرَى إلَى مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ تَشَاءَ الْوَرَثَةُ» وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ» وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُجِيزُ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا وَإِنْ أَجَازَ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ تَجُوزُ عَلَى الْمُجِيزِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهَا قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ إذْ الْحَقُّ يَثْبُتُ لَهُمْ فَكَانَ لَهُمْ بِالْمَوْتِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ الْإِجَازَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَيَرُدُّوا تِلْكَ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ سَاقِطَةً لِعَدَمِ مُصَادِفَتِهَا الْمَحَلَّ وَكُلُّ سَاقِطٍ فِي نَفْسِهِ مُضْمَحِلٌّ مُتَلَاشٍ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ.
وَلَا يُقَالُ كَيْفَ تَكُونُ تِلْكَ الْإِجَازَةُ سَاقِطَةً مَعَ ثُبُوتِ حَقِّ الْوَرَثَةِ فِي مَالِهِ مِنْ أَوَّلِ مَا مَرَضَ بِدَلِيلِ مَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّهِمْ لَكِنْ ذَلِكَ الثُّبُوتَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ فَإِذَا مَاتَ ظَهَرَ أَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ ثَابِتًا مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ وَأَنَّ الْإِجَازَةَ صَادَفَتْ مَحَلَّهَا لِاسْتِنَادِ حَقِّهِمْ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ فَصَارَ كَإِجَازَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الِاسْتِنَادُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ فَإِجَازَتُهُمْ حِينَ وَقَعَتْ فِي حَيَاتِهِ وَقَعَتْ بَاطِلَةً وَمَا وَقَعَ بَاطِلًا لَا يَكُونُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ الِاسْتِنَادِ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ لِلْوَرَثَةِ تَثْبُتُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَهُ يَثْبُتُ لَهُمْ مُجَرَّدُ الْحَقِّ فَلَوْ اسْتَنَدَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَانْقَلَبَ الْحَقُّ حَقِيقَةً قَبْلَ مَوْتِهِ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ لِوُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ حَقِيقَةً فَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ بَقِيَ حَقًّا عَلَى حَالِهِ لَا حَقِيقَةً وَالرِّضَا بِبُطْلَانِ ذَلِكَ الْحَقِّ لَا يَكُونُ رِضًا بِبُطْلَانِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ الَّذِي يَحْدُثُ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَازُوهَا بَعْدَ مَوْتِهِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهَا.
لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً فَتَلْزَمُ ثُمَّ إذَا صَحَّتْ الْإِجَازَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ يَتَمَلَّكُهُ الْمَجَازُ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي عِنْدَنَا حَتَّى يُجْبَرَ الْوَارِثُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْعِتْقَ كَانَ الْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمَيِّتِ، وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ مُتَزَوِّجًا بِجَارِيَةِ الْمُورِثِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَأَوْصَى بِهَا لِغَيْرِهِ فَأَجَازَ الْوَارِثُ وَهُوَ الزَّوْجُ الْوَصِيَّةَ لَا يَبْطُلُ نِكَاحُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُجِيزِ حَتَّى لَا يُجْبَرَ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ وَيَكُونُ لَهُ ثُلُثَا الْوَلَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ وَيَفْسُدُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي الثُّلُثِ وَلِهَذَا لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَيُبْطِلُهَا الْوَارِثُ فَيَكُونُ الزَّائِدُ عَلَى الثُّلُثِ مِلْكًا لِلْوَارِثِ حَقِيقَةً.
فَإِذَا أَجَازَ صَارَ مُمَلِّكًا لَهُ مِنْ جِهَتِهِ ضَرُورَةً وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ صَدَرَتْ مِنْ الْمُوصِي وَصَادَفَتْ مِلْكَهُ حَالًا وَمَآلًا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ مَمْلُوكٌ لَهُ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ وَلِهَذَا يَبْدَأُ بِحَوَائِجِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْوَارِثُ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ كَتَجْهِيزِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَلَا يَمْلِكُ مَا كَانَ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ مِنْ مَالٍ فَإِذَا أَوْصَى صَارَ مَشْغُولًا بِهَا لَكِنَّ لِلْوَرَثَةِ نَقْضَهَا فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ فَإِذَا أَجَازُوا الْوَصِيَّةَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْتَقِلًا إلَى مِلْكِهِمْ وَسَقَطَ حَقُّهُمْ وَنَفَذَ الْعَقْدُ السَّابِقُ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَجَازَ بَيْعَ الرَّاهِنِ وَلَا يُقَالُ لَوْ كَانَ الْوَارِثُ مَرِيضًا فَأَجَازَ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إسْقَاطُ الْحَقِّ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ كَإِجَازَتِهِ الْعِتْقَ وَالْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ مُحَابَاةٌ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مِنْ جِهَتِهِ فَكَذَا هَذَا وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا ذَكَرْنَا وَفِي تَمَلُّكِ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَعِنْدَهُ لَا يَتَمَلَّكُ وَفِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ حَيْثُ تَجُوزُ الْإِجَازَةُ فِيهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَجُوزُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ لَا تَجُوزُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا لِلْجِنَايَةِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ وَلَهُمَا أَنَّ امْتِنَاعَهَا لِحَقِّ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ نَفْعَ بُطْلَانِهَا يَعُودُ إلَيْهِمْ كَنَفْعِ بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَهَا لِلْقَاتِلِ كَمَا لَا يَرْضَوْنَهَا لِأَحَدِهِمْ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيُوصِي الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ وَبِالْعَكْسِ) أَيْ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ وَالْكَافِرُ لِلْمُسْلِمِ فَالْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} [الممتحنة: ٨] الْآيَةَ وَالثَّانِي؛ لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ اُلْتُحِقُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلِهَذَا جَازَ التَّبَرُّعُ الْمُنَجَّزُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ إلَخْ) قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَإِنْ أَجَازَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يُجِزْ الْبَعْضُ فَفِي حَقِّ الَّذِي أَجَازَ كَأَنَّ كُلَّهُمْ أَجَازُوا وَفِي حَقِّ الَّذِي لَمْ يُجِزْ كَأَنَّ كُلَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوا وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَوْصَى الرَّجُلُ بِنِصْفِ مَالِهِ فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِلْمُوصَى لَهُ رُبُعَانِ وَهُوَ النِّصْفُ وَرُبُعَانِ لِلِابْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُ الْمَالِ وَلَوْ لَمْ يُجِيزُوا فَلِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ وَالثُّلُثَانِ لِلِابْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ الْمَالِ وَلَوْ أَجَازَ وَاحِدٌ وَلَمْ يُجِزْ الْآخَرُ جَازَ فِي حَقِّ الَّذِي أَجَازَ كَأَنَّهُمَا أَجَازَا وَيُعْطَى لَهُ رُبُعُ الْمَالِ وَفِي حَقِّ الَّذِي لَمْ يُجِزْ كَأَنَّهُمَا لَمْ يُجِيزَا يُعْطَى لَهُ ثُلُثُ الْمَالِ وَالْبَاقِي يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ فَيَجْعَلُ الْمَالَ عَلَى اثْنَيْ عَشْرَ لِحَاجَتِنَا إلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، فَالرُّبُعُ لِلَّذِي أَجَازَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَالثُّلُثُ لِلَّذِي لَمْ يُجِزْ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَبَقِيَ خَمْسَةٌ فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ اهـ غَايَةٌ (قَوْلُهُ لَا يَكُونُ رِضًا بِبُطْلَانِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ إلَخْ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ يَعْنِي أَنَّ إجَازَةَ الْوَرَثَةِ لِلْوَصِيَّةِ قَبْلَ الْمَوْتِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُمْ إلَخْ) قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ ثَبَتَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَإِذَا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَسْقَطُوا حَقَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَصَحَّ اهـ أَتْقَانِيٌّ.
[وَصِيَّة الْمُسْلِم لِلذِّمِّيِّ والذمي لِلْمُسْلِمِ]
. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَيُوصِي الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ إلَخْ) يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوصِيَ لِفُقَرَاءِ النَّصَارَى لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ بِخِلَافِ بِنَاءِ الْبِيعَةِ. اهـ. قَاضِيخَانْ (قَوْلُهُ وَالثَّانِي) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ فَلِأَنَّ مَنْ جَازَ وَصِيَّةُ الْمُسْلِمِ لَهُ جَازَ وَصِيَّتُهُ لِلْمُسْلِمِ كَالْمُسْلِمِ اهـ.