للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَرْضٌ إنْ كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يُهَانُ بِذَلِكَ أَوْ يُضْرَبُ، وَهُوَ لَا يَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ تَقَعُ الْفِتَنُ فَتَرْكُهُ أَفْضَلُ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَصْبِرُ عَلَى الضَّرْبِ وَالضَّرَرِ، وَلَمْ يَصِلْ إلَى غَيْرِهِ بِذَلِكَ ضَرَرٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ مُجَاهِدٌ بِذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ، وَلَا يَخَافُ مِنْهُمْ ضَرْبًا، وَلَا شَتْمًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ، وَالْأَمْرُ أَفْضَلُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمَنْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُدَبَّرَةً فَمَاتَتْ ضَمِنَ قِيمَةَ الْمُدَبَّرَةِ لَا أُمَّ الْوَلَدِ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَا يَضْمَنُ أُمَّ الْوَلَدِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُمَا كَالْمُدَبَّرَةِ، وَعِنْدَهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَوَجْهُهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(كِتَابُ الشُّفْعَةِ) وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الشَّفْعِ، وَهُوَ الضَّمُّ ضِدُّ الْوِتْرِ، وَمِنْهُ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُذْنِبِينَ؛ لِأَنَّهُ يَضُمُّهُمْ بِهَا إلَى الْفَائِزِينَ يُقَالُ شَفَعَ الرَّجُلُ شَفْعًا إذَا كَانَ فَرْدًا فَصَارَ لَهُ ثَانٍ، وَالشَّفِيعُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يُضَمُّ الْمَأْخُوذُ إلَى مِلْكِهِ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ شُفْعَةً. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (هِيَ تَمَلُّكُ الْبُقْعَةِ جَبْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ) هَذَا فِي الشَّرْعِ، وَمَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَهُوَ الضَّمُّ وَزِيدَ عَلَيْهِ أَوْصَافٌ مِنْ التَّمَلُّكِ لِلْبُقْعَةِ عَلَى وَجْهِ الْجَبْرِ وَسَبَبُهَا اتِّصَالُ مِلْكِ الشَّفِيعِ بِالْمُشْتَرَى؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ عَنْهُ عَلَى الدَّوَامِ بِسَبَبِ سُوءِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ مِنْ حَيْثُ إعْلَاءُ الْجِدَارِ، وَإِيقَادُ النَّارِ، وَمَنْعُ ضَوْءِ النَّهَارِ، وَإِثَارَةُ الْغُبَارِ، وَإِيقَافُ الدَّوَابِّ وَالصِّغَارِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ يُضَادُّهُ كَمَا قِيلَ أَضْيَقُ السُّجُونِ مُعَاشَرَةً الْأَضْدَادُ.

وَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ عَقَارًا سُفْلًا كَانَ أَوْ عُلْوًا احْتَمَلَ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا، وَأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ مَالٌ بِمَالٍ. وَرُكْنُهَا أَخْذُ الشَّفِيعِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهَا. وَشَرْطُهَا وَحُكْمُهَا جَوَازُ الطَّلَبِ عِنْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ. وَصِفَتُهَا أَنَّ الْأَخْذَ بِهَا بِمَنْزِلَةِ شِرَاءٍ مُبْتَدَأٍ حَتَّى يَثْبُتَ بِهَا مَا يَثْبُتُ بِالشِّرَاءِ نَحْوُ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَتَجِبُ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ إنْ كَانَ خَاصًّا ثُمَّ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ) لِمَا رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكُهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ بَاعَهُ، وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالشُّفْعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْأَرَضِينَ وَالدُّورِ» رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يَنْتَظِرُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ مِنْ غَيْرِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا كَانَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ مُرَتَّبَةً عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

[ كِتَابُ الشُّفْعَةِ]

ِ) ذَكَرَ كِتَابَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ كِتَابِ الْغَصْبِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمَلُّكُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَفَرْقُهُمَا أَنَّ الشُّفْعَةَ مَشْرُوعٌ وَالْغَصْبَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بَلْ هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَدِّمَ كِتَابَ الشُّفْعَةِ لِشَرْعِيَّتِهَا، وَلَكِنْ قَدَّمَ الْغَصْبَ لِكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ كَثِيرًا فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالْمُزَارَعَاتِ وَغَيْرِهَا لَا سِيَّمَا هَذَا الزَّمَانُ فَإِنَّهُ زَمَانُ الظُّلْمِ وَالْحَيْفِ وَالتَّعَدِّي، وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ

الظُّلْمُ فِي خُلُقِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلَعَلَّهُ لَا يَظْلِمُ

اهـ أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ هِيَ تَمَلُّكُ الْبُقْعَةِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ثُمَّ الشُّفْعَةُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ التَّمَلُّكِ فِي الْعَقَارِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجِوَارِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَسَبَبُهَا اتِّصَالُ مِلْكِ الشَّفِيعِ إلَخْ)، وَقِيلَ سَبَبُهَا الْبَيْعُ كَمَا سَيَأْتِي قُبَيْلَ قَوْلِهِ وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ. اهـ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: وَسَبَبُ الشُّفْعَةِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ الشَّرِكَةُ فِي الْبُقْعَةِ وَالشَّرِكَةُ فِي الْحُقُوقِ وَالْجِوَارُ عَلَى سَبِيلِ الْمُلَاصَقَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْجِوَارِ وَسَيَجِيءُ بَيَانُ الْخِلَافِ. اهـ.

وَكَتَبَ أَيْضًا مَا نَصُّهُ وَالسَّبَبُ فِيهَا أَصْلُ الشَّرِكَةِ لَا قَدْرُهَا، وَأَصْلُ الْجِوَارِ لَا قَدْرُهُ حَتَّى لَوْ كَانَ لِلدَّارِ شَرِيكٌ وَاحِدٌ أَوْ جَارٌ وَاحِدٌ أَخَذَ كُلَّ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ كَثُرَ شَرِيكُهُ وَجِوَارُهُ أَوْ قَلَّ. اهـ بَدَائِعُ. (قَوْلُهُ: وَإِيقَافُ الدَّوَابِّ وَالصِّغَارِ) فَإِنْ قَلَّتْ فِي الْمَمْلُوكِ بِالْإِرْثِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فَتُنْتَقَضُ عِلَّتُكُمْ قُلْنَا إنَّمَا لَا تَثْبُتُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِهَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ وُجُودُهُ وَالثَّانِي لَوْ ثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِعِوَضٍ أَوْ لَا بِعِوَضٍ وَالثَّانِي لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِي الشُّفْعَةِ وَالْأَوَّلُ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ بِالتَّمَلُّكِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ أَوْ بِقِيمَتِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ يَأْخُذُهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَمْ يَمْلِكْ الدَّارَ بِثَمَنٍ فَكَيْفَ يَأْخُذُهَا بِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخُلْطَةَ سَبَبُ الشُّفْعَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَعَ هَذَا لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ بِالْخَلْطِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (قَوْلُهُ: سُفْلًا كَانَ أَوْ عُلُوًّا) إذْ الشُّفْعَةُ لَا تَجِبُ فِي الْمَنْقُولَاتِ قَصْدًا بَلْ تَثْبُتُ تَبَعًا لِلْعَقَارِ. اهـ مِعْرَاجٌ. (قَوْلُهُ: وَأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ) أَيْ، وَمِنْ شَرْطِهَا طَلَبُ الشَّفِيعِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ: وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ إلَخْ) وَالسَّقَبُ الْقُرْبُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الشُّفْعَةُ وَتَجُوزُ كِتَابَتُهُ بِالسِّينِ وَالصَّادِ جَمِيعًا

<<  <  ج: ص:  >  >>