(كِتَابُ الْحُدُودِ) الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِمَنْعِهِ النَّاسَ عَنْ الدُّخُولِ وَسُمِّيَ اللَّفْظُ الْجَامِعُ الْمَانِعُ حَدًّا لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَعْنَى الشَّيْءِ وَيَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِ فِيهِ وَسُمِّيَتْ الْعُقُوبَاتُ الْخَالِصَةُ حُدُودًا لِأَنَّهَا مَوَانِعُ مِنْ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا مُعَاوَدَةً وَحُدُودُ اللَّهِ مَحَارِمُهُ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: ١٨٧] وَحُدُودُ اللَّهِ أَيْضًا أَحْكَامُهُ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ عَنْ التَّخَطِّي إلَى مَا وَرَاءَهَا وَمِنْهُ {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: ٢٢٩] وَفِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِعُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُسَمَّى التَّعْزِيرُ حَدًّا لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ وَلَا الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَحُكْمُهُ الْأَصْلِيُّ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ وَصِيَانَةُ دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْفَسَادِ وَلِهَذَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ شُرِعَ لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ إلَى كَافَّةِ النَّاسِ وَالطُّهْرَةُ مِنْ الذَّنْبِ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ أَصْلِيٍّ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِالتَّوْبَةِ لَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: ٣٣] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: ٣٤] الْآيَةَ. وَعَدَ الْمَغْفِرَةَ لِلتَّائِبِ وَلِهَذَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْكَافِرِ وَلَا طُهْرَةَ لَهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْحَدُّ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى) وَهَذَا فِي الشَّرْعِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالزِّنَا وَطْءٌ فِي قُبُلٍ خَالٍ عَنْ مِلْكٍ وَشُبْهَتِهِ)
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
[ كِتَابُ الْحُدُودِ]
ِ) قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا اشْتَمَلَتْ الْأَيْمَانُ عَلَى بَيَانِ الْكَفَّارَةِ وَهِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ أَوْلَاهَا الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ انْدِفَاعًا إلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ بِتَدْرِيجٍ وَلَوْلَا مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ لُزُومِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ لَكَانَ إيلَاءُ الْحُدُودِ الصَّوْمَ أَوْجَهَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ الْمُغَلَّبِ فِيهَا جِهَةُ الْعُقُوبَةِ حَتَّى تَدَاخَلَتْ عَلَى مَا عُرِفَ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ الْمُغَلَّبِ فِيهَا جِهَةُ الْعِبَادَةِ لَكِنْ كَانَ يَكُونُ التَّرْتِيبُ حِينَئِذٍ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْأَيْمَانُ ثُمَّ الصَّوْمُ ثُمَّ الْحُدُودُ ثُمَّ الْحَجُّ فَيَقَعُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ بِالْأَجْنَبِيِّ مَا يُبْعِدُ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ الْمُتَّحِدَةِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَمُوجِبُ اسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ لَهَا كَذَلِكَ لَكِنَّهُ قَالَ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ اهـ
(قَوْلُهُ فَلَا يُسَمَّى التَّعْزِيرُ حَدًّا لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَهَذَا مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ وَالْقِصَاصُ يُسَمَّى أَيْضًا حَدًّا فَحُدُودُ الشَّرْعِ مَوَانِعُ قَبْلَ الْوُقُوعِ وَزَوَاجِرُ بَعْدَهُ قَالَ الْكَمَالُ أَيْ الْعِلْمُ بِشَرْعِيَّتِهَا يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ وَإِيقَاعُهَا بَعْدَهُ يَمْنَعُ مِنْ الْعَوْدِ إلَيْهِ اهـ وَقَالَ الْكَمَالُ فَلَا يُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ نَوْعٌ مِنْهُ وَهُوَ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ لَكِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي الضَّرْبِ بَلْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنْ حَبْسٍ وَعَرْكِ أُذُنٍ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي وَهَذَا الِاصْطِلَاحُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَفِي اصْطِلَاحٍ آخَرَ لَا يُؤْخَذُ الْقَيْدُ الْأَخِيرُ فَيُسَمَّى الْقِصَاصُ حَدًّا فَالْحَدُّ هُوَ الْعُقُوبَةُ الْمُقَدَّرَةُ شَرْعًا غَيْرَ أَنَّ الْحَدَّ عَلَى هَذَا قِسْمَانِ مَا يَصِحُّ فِيهِ الْعَفْوُ وَمَا لَا يَقْبَلُهُ وَعَلَى الْأَوَّلِ الْحَدُّ مُطْلَقًا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَعَلَيْهِ انْبَنَى عَدَمُ الشَّفَاعَةِ فِيهِ فَإِنَّهَا طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَلِذَا «أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالَ أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ»
وَأَمَّا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْإِمَامِ وَالثُّبُوتِ عِنْدَهُ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيُطْلِقَهُ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَقَالَ إذَا بَلَغَ إلَى الْإِمَامِ فَلَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ إنْ عَفَا وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ فَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ بَلْ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ الثُّبُوتِ عِنْدَهُ. اهـ. (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ) أَيْ بِدَلَالَةِ جَوَازِ الْفِعْلِ وَالِاعْتِيَاضِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَالطُّهْرَةُ مِنْ الذَّنْبِ إلَخْ) قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ شَارِحُ الْكَنْزِ عِنْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا حُدَّ أَوْ اُقْتُصَّ فِي الدُّنْيَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُقْتَصُّ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا لَمْ يُعَاقَبْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ» اهـ
وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ الطُّهْرَةُ عَنْ الذَّنْبِ لَا تَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ بَلْ بِالتَّوْبَةِ وَلِهَذَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ. اهـ. (قَوْلُهُ لَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ) قَالَ عُلَمَاؤُنَا إذَا ارْتَكَبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا يُوجِبُ الْحَدَّ فَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يَحْصُلُ لَهُ التَّطْهِيرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَنَدَمٍ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ وَفِيهِ رَدٌّ لِمَذْهَبِ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ لَا يَضُرُّ ذَنْبٌ مَعَ الْإِيمَانِ كَمَا لَا تَنْفَعُ طَاعَةٌ مَعَ الْكُفْرِ اهـ أَوَّلَ الْكَشْفِ شَرْحُ الْبَزْدَوِيِّ اهـ (قَوْلُهُ {لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: ٣٣] قَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ} [المائدة: ٣٣] يَعْنِي الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا. اهـ. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَالزِّنَا وَطْءٌ فِي قُبُلٍ خَالٍ إلَخْ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الزِّنَا وَأَنَّهُ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ وَاللِّسَانِ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ قَالَ الْكَمَالُ وَذَكَرَ أَنَّ الزِّنَا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ يَعْنِي لَمْ يُزَدْ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ قَيْدٌ وَعَرَّفَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِأَنَّهُ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ وَهَذَا لِأَنَّ فِي اللُّغَةِ مَعْنَى الْمِلْكِ أَمْرٌ ثَابِتٌ قَبْلَ مَجِيءِ هَذَا الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا لَكِنَّ ثُبُوتَهُ بِالشَّرْعِ الْأَوَّلِ بِالضَّرُورَةِ
وَالنَّاسُ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْمِلْكِ أَمْرًا مَشْرُوعًا مِنْ بَعْثِ آدَمَ أَوْ قَبْلَ بَعْثِهِ بِوَحْيٍ يَخُصُّهُ أَيْ يَخُصُّ الْمِلْكَ فَكَانَ ثُبُوتُهُ شَرْعًا مَعَ اللُّغَةِ مُطْلَقًا فِي الْوُجُودِ الدُّنْيَوِيِّ سَوَاءٌ كَانَتْ اللُّغَةُ عَرَبِيَّةً أَمْ غَيْرَهَا مَخْصُوصَةً بِالدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ قَبْلَهَا فَثُبُوتُ الْمُسَمَّى فِي الدُّنْيَا وَالْوَضْعُ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ قَبْلَ تَحَقُّقِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعْرِيفٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَخُصَّ اسْمَ الزِّنَا بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ بَلْ هُوَ أَعَمُّ وَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ» وَلَوْ وَطِئَ رَجُلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ لَا يُحَدُّ لِلزِّنَا وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِالزِّنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ زِنًا وَإِنْ كَانَ لَا يُحَدُّ فَلَوْلَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ الْمُوجِبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute