قَاذِفِ وَاطِئِ أَمَةٍ مَجُوسِيَّةٍ وَحَائِضٍ وَمُكَاتَبَةٍ، وَمُسْلِمٍ نَكَحَ أُمَّهُ فِي كُفْرِهِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِلْكَهُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثَابِتٌ وَفِيمَنْ تَزَوَّجَ أُمَّهُ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْمَحَارِمِ فِي حَالَةِ الْكُفْرِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ نِكَاحَهُمْ عِنْدَهُ صَحِيحٌ وَعِنْدَهُمَا فَاسِدٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي نِكَاحِ الْمَجُوسِ مَحَارِمَهُمْ وَفِي الْمُكَاتَبَةِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ هُوَ يَقُولُ وَطْؤُهَا حَرَامٌ عَلَى الْمَوْلَى وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ لِخُرُوجِ الْمَنْفَعَةِ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى لَزِمَهُ الْعُقْرُ بِوَطْئِهَا قُلْنَا مِلْكُهُ فِيهَا ثَابِتٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُهَا عَنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَوُجُوبُ الْعُقْرِ لَا يُنَافِي الْحِلَّ فَكَيْفَ يُنَافِي الشُّبْهَةَ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمُسْتَأْمِنٌ قَذَفَ مُسْلِمًا) أَيْ يُحَدُّ مُسْتَأْمِنٌ قَذَفَ مُسْلِمًا وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوَّلًا يَقُولُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ كَسَائِرِ الْحُدُودِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذُكِرَ هُنَا وَوَجْهُهُ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَقَدْ الْتَزَمَ إيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ لَا يُؤْذِيَ وَمُوجِبُهُ إذَا آذَى طَمَعًا فِي أَنْ لَا يُؤْذِيَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ قَذَفَ أَوْ زَنَى أَوْ شَرِبَ مِرَارًا فَحُدَّ فَهُوَ لِكُلِّهِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى إخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنْ الْفَسَادِ وَالِانْزِجَارُ عَنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ أَوْ يُحْتَمَلُ حُصُولُهُ فَخَلَا الثَّانِي عَنْ الْمَقْصُودِ أَوْ يَحْتَمِلُهُ فَتَمَكَّنَ فِيهِ شُبْهَةُ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ فَلَا يُشْرَعُ إذْ الْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَقَذَفَ وَشَرِبَ حَيْثُ يُحَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا حَدَّهُ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَعْضِ إذْ الْأَغْرَاضُ مُخْتَلِفَةٌ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَدِّ الزِّنَا صِيَانَةُ الْأَنْسَابِ وَمِنْ حَدِّ الْقَذْفِ صِيَانَةُ الْأَعْرَاضِ وَمِنْ حَدِّ الشُّرْبِ صِيَانَةُ الْعُقُولِ فَلَا يَحْصُلُ بِكُلِّ جِنْسٍ إلَّا مَا قُصِدَ بِشَرْعِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ جُلِدَ لِلْقَذْفِ إلَّا سَوْطًا ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ يُتَمُّ الْأَوَّلُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي لِلتَّدَاخُلِ وَلَوْ ضُرِبَ لِلزِّنَا أَوْ لِلشُّرْبِ بَعْضَ الْحَدِّ فَهَرَبَ ثُمَّ زَنَى أَوْ شَرِبَ ثَانِيًا حُدَّ حَدًّا مُسْتَأْنَفًا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْقَذْفِ يُنْظَرُ فَإِنْ حَضَرَ الْأَوَّلُ إلَى الْقَاضِي يُتَمَّمُ الْأَوَّلُ وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي وَإِنْ حَضَرَ الثَّانِي وَحْدَهُ يُحَدُّ حَدًّا مُسْتَأْنَفًا لِلثَّانِي وَبَطَلَ الْأَوَّلُ وَلَوْ قَذَفَ عَبْدٌ فَأُعْتِقَ ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ فَأَخَذَهُ الْأَوَّلُ فَضُرِبَ أَرْبَعِينَ ثُمَّ أَخَذَهُ الثَّانِي يُتَمُّ لَهُ ثَمَانُونَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَتَدَاخَلُ إلَّا إذَا قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ وَاحِدًا بِزِنًا وَاحِدٍ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ عِنْدَهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا تَدَاخُلَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَعِنْدَنَا الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَتَدَاخَلُ وَحُكِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى كَانَ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ فَسَمِعَ رَجُلًا يَوْمًا يَقُولُ عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَأَمَرَ بِأَخْذِهِ فَأُدْخِلَ الْمَسْجِدَ فَضَرَبَهُ حَدَّيْنِ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ لِقَذْفِهِ الْوَالِدَيْنِ فَأُخْبِرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِذَلِكَ فَقَالَ يَا لِلْعَجَبِ مِنْ قَاضِي بَلَدِنَا قَدْ أَخْطَأَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: حَدَّهُ مِنْ غَيْرِ خُصُومَةِ الْمَقْذُوفِ وَضَرْبَهُ حَدَّيْنِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ،
وَلَوْ قَذَفَ أَلْفًا، وَوَالَى بَيْنَ الْحَدَّيْنِ وَالْوَاجِبُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَحَدَّهُ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جَنِّبُوا صِبْيَانَكُمْ مَسَاجِدَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ» وَالْخَامِسُ يَنْبَغِي أَنْ يَكْشِفَ أَنَّ الْمَقْذُوفَيْنِ حَيَّانِ أَوْ مَيِّتَانِ لِتَكُونَ الْخُصُومَةُ إلَيْهِمَا أَوْ إلَى وَلَدِهِمَا فَإِنْ اجْتَمَعَتْ عَلَى وَاحِدٍ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ بِأَنْ قَذَفَ وَزَنَى وَشَرِبَ وَسَرَقَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْكُلُّ وَلَا يُوَالِي بَيْنَهَا خِيفَةَ الْهَلَاكِ بَلْ يَنْتَظِرُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَبْدَأَ بِحَدِّ الْقَذْفِ أَوْ لَا لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ ثُمَّ الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا وَإِنْ شَاءَ بِالْقَطْعِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ إذْ هُمَا ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ وَيُؤَخِّرُ حَدَّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُمَا وَلَوْ كَانَ مَعَ هَذَا جِرَاحَةٌ تُوجِبُ الْقِصَاصَ بُدِئَ بِالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ ثُمَّ حَذَفَ الْقَذْفَ ثُمَّ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ) لَمَّا ذَكَرَ الْحُدُودَ وَهِيَ الزَّوَاجِرُ الْمُقَدَّرَةُ شَرَعَ فِي الزَّوَاجِرِ غَيْرِ الْمُقَدَّرَةِ إذْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ كَالْحُدُودِ وَهُوَ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَزْرِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالرَّدْعِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: ٣٤] الْآيَةَ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَرْفَعْ عَصَاك عَنْ أَهْلِك» وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَزَّرَ رَجُلًا قَالَ لِغَيْرِهِ يَا مُخَنَّثُ وَحَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» وَاجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِهِ فِي كَبِيرَةٍ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ أَوْ جِنَايَةٍ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ ثُمَّ هُوَ قَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَمُوجِبَهُ) بِالنَّصْبِ. اهـ.
(قَوْلُهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْكُلُّ إلَخْ) فَرْعٌ قَذَفَ رَجُلًا فَحُدَّ لِقَذْفِهِ ثُمَّ قَذَفَهُ ثَانِيًا هَلْ يُحَدُّ ثَانِيًا يُنْظَرُ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَبِشَيْءٍ قُطِعَ فِيهِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ.
[فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ]
(فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ) فَرْعٌ لِلْمَوْلَى تَعْزِيرُ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يَحُدُّ عَبْدَهُ إلَّا بِإِذْنِ إمَامِهِ اهـ وَذُكِرَ هُنَاكَ أَنَّهُ تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَيَصِحُّ فِيهِ الْعَفْوُ. اهـ. (قَوْلُهُ وَاضْرِبُوهُنَّ) أَمْرٌ بِضَرْبِ الزَّوْجَاتِ تَأْدِيبًا وَتَهْذِيبًا لَهُنَّ. اهـ. كَاكِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute