بِحَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ تَزَوَّجْتُ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ ذَكَرْتُ لَهُ ثَانِيًا فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ ثَالِثًا، فَقَالَ: فَارِقْهَا إذَنْ، فَقُلْتُ: إنَّهَا سَوْدَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ».
وَمَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَجْمَعِينَ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ حُجَّةٌ لَنَا أَيْضًا فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْرَضَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى مِنْهُ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِهِمَا حَيْثُ كَرَّرَ السُّؤَالَ أَمَرَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا احْتِيَاطًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ كَانَتْ عَنْ ضِغْنٍ فَإِنَّهُ قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ تَسْتَطْعِمُنَا فَأَبَيْنَا أَنْ نُطْعِمَهَا فَجَاءَتْ تَشْهَدُ عَلَى الرَّضَاعِ وَبِالْإِجْمَاعِ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَنَزُّهًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ»، وَنَحْنُ نَقُولُ بِالتَّنَزُّهِ إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(كِتَابُ الطَّلَاقِ).
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (هُوَ رَفْعُ الْقَيْدِ الثَّابِتِ شَرْعًا بِالنِّكَاحِ) وَهَذَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَوْلُهُ شَرْعًا يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ الثَّابِتِ حِسًّا وَهُوَ حَلُّ الْوَثَاقِ، وَقَوْلُهُ بِالنِّكَاحِ يُحْتَرَزُ بِهِ مِنْ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ قَيْدٍ ثَابِتٍ شَرْعًا لَكِنَّهُ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْقَيْدُ بِالنِّكَاحِ وَفِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْقَيْدِ مُطْلَقًا يُقَالُ أَطْلَقَ الْفَرَسَ وَالْأَسِيرَ وَلَكِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي النِّكَاحِ بِالتَّفْعِيلِ وَفِي غَيْرِهِ بِالْأَفْعَالِ وَلِهَذَا فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ وَبِتَخْفِيفِهَا يَحْتَاجُ
، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ النِّكَاحَ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَظِمُ بِهِ مَصَالِحَهُمْ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ. ثُمَّ شُرِعَ الطَّلَاقُ إكْمَالًا لِلْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُوَافِقُهُ النِّكَاحُ فَيَطْلُبُ الْخَلَاصَ فَمَكَّنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ عَدَدًا وَحُكْمَهُ مُتَأَخِّرًا لِيُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي الْفِرَاقِ كَمَا جَرَّبَهَا فِي النِّكَاحِ، ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ لِيَتَأَدَّبَ بِمَا فِيهِ غَيْظُهُ وَهُوَ الزَّوْجُ الثَّانِي عَلَى مَا عَلَيْهِ جِبِلَّةُ الْفُحُولَةِ بِحِكْمَتِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ يَحْتَاجُ هُنَا إلَى مَعْرِفَةِ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ مَعْنَى الطَّلَاقِ لُغَةً وَشَرِيعَةً، وَقَدْ بَيَّنَّاهُمَا وَرُكْنُهُ وَهُوَ اللَّفْظُ وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَشَرْطُهُ وَهُوَ الْأَهْلِيَّةُ وَالْمَحَلُّ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا وَالْمَرْأَةُ فِي النِّكَاحِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ وَحُكْمُهُ وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ عَنْ الْمَحَلِّ مَعَ انْتِقَاصِ الْعَدَدِ وَالسَّابِعُ أَنْوَاعُهُ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (تَطْلِيقُهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَا وَطْءَ فِيهِ وَتَرْكُهَا حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّتُهَا أَحْسَنُ) لِمَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
[ كِتَاب الطَّلَاق]
لَمَّا فَرَغَ مِنْ النِّكَاحِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهِ اللَّازِمَةِ عِنْدَ وُجُودِهِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ وَهِيَ أَحْكَامُ الرَّضَاعِ شَرَعَ فِيمَا بِهِ يَرْتَفِعُ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ تَقَدَّمَ وُجُودُهُ وَاسْتِعْقَابُ أَحْكَامَهُ وَأَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّضَاعِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ إلَّا أَنَّ مَا بِالرَّضَاعِ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ وَمَا بِالطَّلَاقِ حُرْمَةٌ مُغَيَّاةٌ بِغَايَةٍ مَعْلُومَةٍ فَقَدَّمَ بَيَانَ الْحُكْمِ الْأَشَدِّ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْآخَرِ وَأَيْضًا التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ يُنَاسِبُ التَّرْتِيبَ الْوَضْعِيَّ، وَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ فِي الْوُجُودِ بِأَحْكَامِهِ وَيَتْلُوهُ الطَّلَاقُ فَأَوْجَدَهُ فِي التَّعْلِيمِ كَذَلِكَ وَالطَّلَاقُ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّطْلِيقُ كَالسَّلَامِ وَالسَّرَاحِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسْرِيحِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: ٢٢٩] أَيْ التَّطْلِيقُ أَوْ هُوَ مَصْدَرُ طَلُقَتْ الْمَرْأَةُ بِضَمِّ اللَّامِ أَوْ فَتْحِهَا كَالْفَسَادِ، وَعَنْ الْأَخْفَشِ نَفْيُ الضَّمِّ وَفِي دِيوَانِ الْأَدَبِ أَنَّهُ لُغَةٌ اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: هُوَ رَفْعُ الْقَيْدِ الثَّابِتِ شَرْعًا إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَفِي الشَّرْعِ رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى مَادَّةِ ط ل ق صَرِيحًا كَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ كِنَايَةً كَمُطْلَقَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَهِجَاءِ طَالِقٍ بِلَا تَرْكِيبٍ كَأَنْتِ ط ال ق عَلَى مَا سَيَأْتِي وَغَيْرِهِمَا كَقَوْلِ الْقَاضِي فَرَّقْت بَيْنَهُمَا عِنْدَ إبَاءِ الزَّوْجِ الْإِسْلَامَ، وَالْعُنَّةِ وَاللِّعَانِ وَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ الْمُفِيدَةِ لِلرَّجْعَةِ وَالْبَيْنُونَةِ وَلَفْظِ الْخُلْعِ فَخَرَجَ تَفْرِيقُ الْقَاضِي فِي إبَائِهَا وَرِدَّةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَخِيَارُ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقُ وَعَدَمُ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانُ الْمَهْرِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ طَلَاقًا فَقَوْلُ بَعْضِهِمْ رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِصِدْقِهِ عَلَى الْفُسُوخِ وَمُشْتَمِلٌ عَلَى مَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَإِنَّ كَوْنَهُ مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ مِنْ شَرْطِ وُجُودِهِ لَا دَخْلَ لَهُ فِي حَقِيقَتِهِ وَالتَّعْرِيفُ لِمُجَرَّدِهَا اهـ.
(قَوْلُهُ: وَلَكِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي النِّكَاحِ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ وَاسْتُعْمِلَ فِعْلُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْأَفْعَالِ أَطْلَقْت بَعِيرِي وَأَسِيرِي وَفِيهِ مِنْ التَّفْعِيلِ طَلَّقْت امْرَأَتِي يُقَالُ ذَلِكَ إخْبَارًا عَنْ أَوَّلِ طَلْقَةٍ أَوْقَعَهَا، فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا التَّأْكِيدُ، أَمَّا إذَا قَالَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَلِلتَّكْثِيرِ كَغَلَّقَتْ الْأَبْوَابَ اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ: وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ عَنْ الْمَحَلِّ) أَيْ مُؤَجَّلًا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الرَّجْعِيِّ وَبِدُونِهِ فِي الْبَائِنِ اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: تَطْلِيقُهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَا وَطْءَ فِيهِ) أَيْ وَلَا فِي الْحَيْضِ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِمَا، وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ: وَتَرْكُهَا حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّتُهَا أَحْسَنُ) أَيْ بِلَا طَلَاقٍ آخَرَ اهـ. وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْكَمَالُ وَلِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قِلَّةِ ضَرَرِ هَذَا وَاسْتِحْبَابِهِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ كَانَ أَحْسَنَ اهـ. وَكَتَبَ أَيْضًا مَا نَصُّهُ قِيلَ الْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْحَظْرَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ حَسَنًا وَأَحْسَنُ فَمِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْأَصْلِ عَلَى نَوْعَيْنِ طَلَاقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute