للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَالْكِسْوَةِ عَلَى أَصْحَابِ الدُّيُونِ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغَيْرِ بِعَيْنِ مَالِهِ فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ يُقَدَّمُ تَجْهِيزُهُ مِنْ غَيْرِ تَقْتِيرٍ وَلَا تَبْذِيرٍ، وَهُوَ قَدْرُ كَفَنِ الْكِفَايَةِ أَوْ كَفَنِ السُّنَّةِ أَوْ قَدْرُ مَا كَانَ يَلْبَسُهُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ أَوْسَطِ ثِيَابِهِ أَوْ مِنْ الَّذِي كَانَ يَتَزَيَّنُ بِهِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَالزِّيَارَاتِ عَلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى.

{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: ٦٧] وَهُوَ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا فَلَا يَجُوزُ كَشْفُ عَوْرَتِهِ، وَفِي الْأَثَرِ لِعِظَامِ الْمَيِّتِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِعِظَامِ الْحَيِّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ دُيُونُهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: ١١] «قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ مُقَدَّمَةً عَلَى الدَّيْنِ، وَقَدْ شَهِدْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ»، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً، وَالْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ، وَالْبِدَايَةُ بِالْوَاجِبِ أَوْلَى.

وَالتَّقْدِيمُ ذِكْرًا لَا يَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ فِعْلًا، وَالْمُرَادُ بِالدَّيْنِ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لَا دَيْنُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ هَذِهِ الدُّيُونَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فَلَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ أَدَاؤُهَا إلَّا إذَا أَوْصَى بِهَا أَوْ تَبَرَّعُوا بِهَا هُمْ مِنْ عِنْدِهِمْ لِأَنَّ الرُّكْنَ فِي الْعِبَادَاتِ نِيَّةُ الْمُكَلَّفِ وَفِعْلُهُ، وَقَدْ فَاتَ بِمَوْتِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ التَّكْلِيفِ، وَالْآخِرَةَ دَارُ الْجَزَاءِ، وَالْعِبَادَةُ اخْتِيَارِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ بِجَبْرِيَّةٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ الِابْتِلَاءِ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْفِعْلُ فِيهَا، وَلَا الْعِبَادَةَ جَبْرِيَّةٌ حَتَّى يُجْتَزَأَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا جَزَاءُ الْفِعْلِ أَوْ تَرْكُهُ ضَرُورَةً بِخِلَافِ دَيْنِ الْعِبَادِ.

لِأَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِيهِ وَلَا نِيَّتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ أَخَذَهُ، وَيَجْتَزِأُ بِذَلِكَ، وَلَا كَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا فِعْلُهُ وَنِيَّتُهُ ابْتِلَاءً، وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ مَالِهِ، وَعَنْ الْعَالَمِينَ جَمِيعًا غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَى الْعَبْدِ بِثُلُثِ مَالِهِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ يَضَعُهَا فِيمَا فَرَّطَ فِيهِ تَفَضُّلًا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ فَإِنْ أَوْصَى بِهِ قَامَ فِعْلُ الْوَرَثَةِ مَقَامَ فِعْلِهِ لِوُجُودِ اخْتِيَارِهِ بِالْإِيصَاءِ، وَإِلَّا فَلَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ وَصِيَّتُهُ) أَيْ ثُمَّ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ لِمَا تَلَوْنَا.

وَفِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيمٍ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي الْمَعْنَى بَلْ هُوَ شَرِيكٌ لَهُمْ حَتَّى إذَا سَلِمَ لَهُ شَيْءٌ سَلِمَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُهُ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيمٍ فِي الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ فَإِنَّ الْوَرَثَةَ وَالْمُوصَى لَهُ لَا يَأْخُذُونَ إلَّا مَا فَضَلَ مِنْهُمَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَهُمْ ذُو فَرْضٍ أَيْ ذُو سَهْمٍ مُقَدَّرٍ) لِمَا تَلَوْنَا.

وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ فَلَأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: ١٩٦] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: ٣٨]

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَلِلْأَبِ السُّدُسُ مَعَ الْوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الِابْنِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: ١١] جُعِلَ لَهُ السُّدُسُ مَعَ الْوَلَدِ، وَوَلَدُ الِابْنِ وَلَدٌ شَرْعًا بِالْإِجْمَاعِ قَالَ تَعَالَى {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: ٢٦] وَكَذَلِكَ عُرْفًا قَالَ الشَّاعِرُ

بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ

وَلَيْسَ دُخُولُ وَلَدِ الِابْنِ فِي الْوَلَدِ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمَجَازِ أَوْ عُرِفَ كَوْنُ حُكْمِ وَلَدِ الِابْنِ كَحُكْمِ الْوَلَدِ بِدَلِيلٍ آخَرَ.

وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَجَمِيعُ أَحْوَالِ الْأَبِ فِي الْفَرَائِضِ ثَلَاثٌ إحْدَاهَا الْفَرْضُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ السُّدُسُ، وَذَلِكَ مَعَ الِابْنِ أَوْ ابْنِ الِابْنِ، وَإِنْ سَفَلَ لِمَا تَلَوْنَا، وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ الْفَرْضُ، وَالتَّعْصِيبُ، وَذَلِكَ مَعَ الْبِنْتِ أَوْ بِنْتِ الِابْنِ الْفَرْضُ لِمَا تَلَوْنَا، وَالتَّعْصِيبُ لِمَا رَوَيْنَا، وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ التَّعْصِيبُ الْمُطْلَقُ، وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، وَلَا وَلَدُ ابْنٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: ١١].

فَذَكْرُ فَرْضِ الْأُمِّ، وَجَعْلِ الْبَاقِيَ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَصَبَةٌ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْجَدُّ كَالْأَبِ إنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الْمَيِّتِ أُمٌّ إلَّا فِي رَدِّهَا إلَى ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَحَجْبِ أُمَّ الْأَبِ فَيَحْجُبُ الْإِخْوَةَ) أَيْ الْجَدُّ كَالْأَبِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الْمَيِّتِ أُنْثَى، وَهُوَ الْجَدُّ الصَّحِيحُ إلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا فِي رَدِّ أُمِّ الْمَيِّتِ مِنْ ثُلُثِ الْجَمِيعِ إلَى ثُلُثِ مَا يَبْقَى فِي زَوْجٍ، وَأَبَوَيْنِ أَوْ زَوْجَةٍ، وَأَبَوَيْنِ.

فَإِنَّ الْأَبَ يَرُدُّهَا إلَيْهِ لَا الْجَدَّ، وَفِي حَجْبِ أُمِّ الْأَبِ فَإِنَّ الْأَبَ يَحْجُبُهَا دُونَ الْجَدِّ، وَإِنْ تَخَلَّلَ فِي نِسْبَتِهِ إلَى الْمَيِّتِ أُمٌّ كَانَ فَاسِدًا فَلَا يَرِثُ إلَّا عَلَى أَنَّهُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّ تَخَلُّلَ الْأُمِّ فِي النِّسْبَةِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ ثُمَّ دَيْنُهُ) مِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ إنْ وَفَّتْ التَّرِكَةُ بِهِ فَبِهَا وَإِنْ لَمْ تُوفِ يُؤَخَّرُ مَا ثَبَتَ فِي الْمَرَضِ بِإِقْرَارِهِ عَنْ سَائِرِ الدُّيُونِ وَبَاقِي الدُّيُونِ سَوَاءٌ يَأْخُذُ كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَقْدِيمِ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ تَقْدِيمَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِيُهْتَمَّ بِتَنْفِيذِهَا حَيْثُ تَهَاوَنَ النَّاسُ فِيهِ. اهـ. مِسْكِينٌ

[أحوال الْأَب فِي الْمِيرَاث]

(قَوْلُهُ الْأَبَاعِدُ) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ الْأَجَانِبُ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>