للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَجِبُ إلَّا بِالْقَذْفِ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَفِي الْقِصَاصِ اُعْتُبِرَ طَلَبُهُ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظٍ دُونَ لَفْظٍ.

وَقَدْ يَثْبُتُ بِدُونِ اللَّفْظِ كَالتَّعَاطِي، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ بِبَيَانٍ فِيهِ شُبْهَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ شَهِدُوا بِالْقَتْلِ الْمُطْلَقِ أَوْ أَقَرَّ بِمُطْلَقِ الْقَتْلِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُ التَّعَمُّدِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لِأَنَّهُ شُرِعَ جَابِرًا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ مَعَ الشُّبْهَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْعَبْدِ.

أَمَّا الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى شُرِعَتْ زَاجِرَةً، وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ أَصْلًا فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي قِصَاصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْأَخْرَسِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ فِي الْغَائِبِ وَالْأَخْرَسِ رِوَايَتَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُفَارِقًا لِذَلِكَ لِأَنَّ الْغَائِبَ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ فِي الْجُمْلَةِ فَيُعْتَبَرُ بِالنُّطْقِ.

وَلَا كَذَلِكَ الْأَخْرَسُ لِتَعَذُّرِ النُّطْقِ فِي حَقِّهِ لِلْآفَةِ الَّتِي بِهِ فَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ مُعْتَبَرَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ مَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ قَالُوا لِأَنَّ الْإِشَارَةَ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ، وَلَا ضَرُورَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ قُلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَفِي الْكِتَابَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لَمْ تُوجَدْ فِي الْإِشَارَةِ لِأَنَّ قَصْدَ الْبَيَانِ فِي الْكِتَابَةِ مَعْلُومٌ حِسًّا وَعِيَانًا.

وَفِي الْإِشَارَةِ زِيَادَةُ أَثَرٍ لَمْ تُوجَدْ فِي الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيَانِ هُوَ الْكَلَامُ لِأَنَّهُ وُضِعَ لَهُ، وَالْإِشَارَةُ أَقْرَبُ إلَيْهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِهَا حَاصِلٌ بِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ إشَارَتُهُ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ فَصَارَتْ أَقْرَبَ إلَى النُّطْقِ مِنْ آثَارِ الْأَقْلَامِ فَاسْتَوَيَا، وَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْآخَرِ بَلْ يُخَيَّرُ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ بِكَلِمَةِ أَوْ، وَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ، وَقَالُوا فِيمَنْ صَمَتَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ الْحُكْمُ كَالْمُعْتَقَلِ لِسَانُهُ حَتَّى لَا يَجُوزَ بِالْإِيمَاءِ وَالْكِتَابَةِ بِهِ إقْرَارُهُ، وَقِيلَ هَذَا تَفْسِيرٌ لِمُعْتَقَلِ اللِّسَانِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (غَنَمٌ مَذْبُوحَةٌ وَمَيِّتَةٌ فَإِنْ كَانَتْ الْمَذْبُوحَةُ أَكْثَرَ تَحَرَّى وَأَكَلَ، وَإِلَّا لَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ بِالتَّحَرِّي، وَإِنْ كَانَتْ الْمَذْبُوحَةُ أَكْثَرَ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ دَلِيلٌ ضَرُورِيٌّ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَلَنَا أَنَّ الْغَلَبَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ فِي إفَادَةِ الْإِبَاحَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَسْوَاقَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَخْلُو عَنْ الْمُحَرَّمِ مِنْ مَسْرُوقٍ وَمَغْصُوبٍ، وَمَعَ ذَلِكَ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ اعْتِمَادًا عَلَى الظَّاهِرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، وَلَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَقَلِيلِ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ أَوْ الثَّوْبِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَيِّتَةُ أَكْثَرَ أَوْ اسْتَوَيَا لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ لِقِلَّتِهِ فَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لُفَّ ثَوْبٌ نَجِسٌ رَطْبٌ فِي ثَوْبٍ طَاهِرٍ يَابِسٍ فَظَهَرَتْ رُطُوبَتُهُ عَلَى ثَوْبٍ طَاهِرٍ لَكِنْ لَا يَسِيلُ لَوْ عُصِرَ لَا يَتَنَجَّسُ) لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَقَاطَرْ مِنْهُ بِالْعَصْرِ لَا يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَبْتَلُّ مَا يُجَاوِرُهُ بِالنَّدَاوَةِ، وَبِذَلِكَ لَا يَتَنَجَّسُ بِهِ، وَذَكَرَ الْمَرْغِينَانِيُّ إنْ كَانَ الْيَابِسُ هُوَ الطَّاهِرَ يَتَنَجَّسُ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بَلَلًا مِنْ النَّجِسِ الرَّطْبِ، وَإِنْ كَانَ الْيَابِسُ هُوَ النَّجِسَ وَالطَّاهِرُ الرَّطْبَ لَا يَتَنَجَّسُ لِأَنَّ الْيَابِسَ النَّجِسَ يَأْخُذُ بَلَلًا مِنْ الطَّاهِرِ، وَلَا يَأْخُذُ الرَّطْبُ مِنْ الْيَابِسِ شَيْئًا، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّطْبُ يَنْفَصِلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَفِي لَفْظِهِ إشَارَةٌ إلَيْهِ حَيْثُ نَصَّ عَلَى أَخْذِ الْبِلَّةِ، وَعَلَى هَذَا إذَا نُشِرَ الثَّوْبُ الْمَبْلُولُ عَلَى حَبْلٍ نَجِسٍ، وَهُوَ يَابِسٌ لَا يَتَنَجَّسُ الثَّوْبُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى، وَقَالَ قَاضِيخَانْ فِي فَتَاوَاهُ إذَا نَامَ الرَّجُلُ عَلَى فِرَاشٍ فَأَصَابَهُ مَنِيٌّ وَيَبِسَ وَعَرِقَ الرَّجُلُ، وَابْتَلَّ الْفِرَاشُ مِنْ عَرَقِهِ إنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرُ الْبَلَلِ فِي بَدَنِهِ لَا يَتَنَجَّسُ جَسَدُهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَرَقُ كَثِيرًا حَتَّى ابْتَلَّ الْفِرَاشُ ثُمَّ أَصَابَ بَلَلُ الْفِرَاشِ جَسَدَهُ، وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي جَسَدِهِ يَتَنَجَّسُ بَدَنُهُ، وَكَذَا الرَّجُلُ إذَا غَسَلَ رِجْلَهُ فَمَشَى عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ بِغَيْرِ مُكَعَّبٍ فَابْتَلَّ الْأَرْضُ مِنْ بَلَلِ رِجْلِهِ، وَاسْوَدَّ وَجْهُ الْأَرْضِ لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ بَلَلِ الْأَرْضِ فِي رِجْلِهِ فَصَلَّى جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ بَلَلُ الْمَاءِ فِي رِجْلِهِ كَثِيرًا حَتَّى ابْتَلَّ بِهِ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَصَارَ طِينًا ثُمَّ أَصَابَ الطِّينُ رِجْلَهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ مَشَى عَلَى أَرْضٍ نَجِسَةٍ رَطْبَةٍ، وَرِجْلُهُ يَابِسَةٌ تَتَنَجَّسُ.

[لف ثَوْب نجس فِي آخِر طَاهِر]

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (رَأْسُ شَاةٍ مُتَلَطِّخٌ بِالدَّمِ أُحْرِقَ، وَزَالَ عَنْهُ الدَّمُ فَاتُّخِذَ مِنْهُ مَرَقَةٌ جَازَ وَالْحَرْقُ كَالْغُسْلِ) لِأَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ مَا فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ أَوْ تُحِيلُهُ فَيَصِيرُ الدَّمُ رَمَادًا فَيَطْهُرُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ وَفِي الْقِصَاصِ إلَخْ) الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقَوَدِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَوَدَ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِشَارَةُ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ فَلَا يُعْتَبَرُ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْقَوَدَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعِوَضِيَّةِ.

لِأَنَّهُ شُرِعَ جَابِرًا وَالْأَعْوَاضُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَالْحَدُّ لَيْسَ كَذَلِكَ. اهـ. يَحْيَى (قَوْلُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي الْأَخْرَسِ كَذَلِكَ) أَيْ لَا يَكُونُ حُجَّةً. اهـ.

[غنم مذبوحة وميتة حُكْم الْأَكْل مِنْهَا]

(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى مَا قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ. اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>