وَإِنَّمَا ضَمِنَ فِيمَا إذَا حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ فَاحِشٌ، وَلِهَذَا لَيْسَ لِلْمُودِعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ فِي الْبَحْرِ، وَلَوْ سَلِمَ يَجِبُ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبِزَرْعِ رُطَبَةٍ وَأَذِنَ بِالْبُرِّ مَا نَقَصَ) أَيْ إذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ حِنْطَةً يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ نُقْصَانِ الْأَرْضِ بِزَرْعِ الرَّطْبَةِ؛ لِأَنَّ الرَّطْبَةَ أَكْثَرُ ضَرَرًا بِالْأَرْضِ مِنْ الْحِنْطَةِ لِانْتِشَارِ عُرُوقِهَا فِيهَا وَكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إلَى سَقْيِهَا فَكَانَ خِلَافًا إلَى شَرٍّ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ النُّقْصَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ أَوْ لِلْحَمْلِ فَأَرْدَفَ مَعَهُ غَيْرَهُ أَوْ زَادَ عَلَى الْمَحْمُولِ عَلَى قَدْرِ الْمُسَمَّى حَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الضَّمَانِ بِحِسَابِهِ؛ لِأَنَّهَا تَلْفِتُ بِمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ وَغَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا تَعَدَّى وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَشْرُوطَ وَزَادَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الضَّمَانُ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا لِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ بِقَدْرِ زِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا حَدِيدًا أَوْ مِلْحًا مِثْلَ وَزْنِهِ يَضْمَنُ كُلَّ الْقِيمَةِ لِمَا قُلْنَا وَهُوَ نَظِيرُهُ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا أَجْرَ) أَيْ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ صَارَ غَاصِبًا وَاسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِالْغَصْبِ وَلَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ بِهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالِاسْتِيفَاءِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَأْذُونًا فِيهِ وَغَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعُ الضَّمَانُ وَالْأُجْرَةُ وَإِنْ زَرَعَ فِيهَا مَا هُوَ أَقَلَّ ضَرَرًا مِنْ الْحِنْطَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ غَاصِبًا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبِخِيَاطَةِ قَبَاءٍ وَأَمَرَ بِقَمِيصٍ قِيمَةَ ثَوْبِهِ وَلَهُ أَخْذُ الْقَبَاءِ وَدَفْعُ أَجْرِ مِثْلِهِ) مَعْنَاهُ إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَخِيطَ لَهُ ثَوْبَهُ قَمِيصًا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ إذَا خَاطَهُ قَبَاءً وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ وَدَفَعَ لَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ قِيلَ أَرَادَ بِالْقَبَاءِ الْقُرْطَقَ وَهُوَ الَّذِي يَلْبَسُهُ الْأَتْرَاكُ مَكَانَ الْقَمِيصِ وَهُوَ ذُو طَاقٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ الْقَمِيصُ إذَا قُدَّ مِنْ قُبُلٍ كَانَ قَبَاءَ طَاقٍ، وَقَبَاءُ طَاقٍ إذَا خِيطَ جَانِبَاهُ كَانَ قَمِيصًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْقُرْطَقِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْقَمِيصِ وَالْقَبَاءِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَفِي غَيْرِهِ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بَلْ يُضَمِّنُهُ الْقِيمَةَ حَتْمًا وَقِيلَ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ فِي الْكُلِّ وَإِطْلَاقُهُ يَدًا عَلَى ذَلِكَ وَجْهُهُ أَنَّ الْقَبَاءَ وَالْقَمِيصَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَأَجْزَاؤُهُمَا وَاحِدٌ وَهِيَ الْكُمُّ وَالذَّيْلُ وَالدِّخْرِيصُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِرَبِّ الثَّوْبِ فِي الْكُلِّ بَلْ يُضَمِّنُهُ قِيمَةُ الثَّوْبِ رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرَ جِنْسِ الْقَمِيصِ فَصَارَ مُخَالِفًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَبَقِيَ غَاصِبًا مَحْضًا وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَمِيصٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ سَدُّهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ انْتِفَاعَ الْقَمِيصِ فَصَارَ مُوَافِقًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ مُخَالِفٌ مِنْ حَيْثُ التَّقْطِيعُ وَالْقَالَبُ فَيَمِيلُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فَإِنْ مَالَ إلَى الْخِلَافِ ضَمِنَهُ قِيمَتُهُ وَصَارَ الثَّوْبُ لِلْخَيَّاطِ وَإِنْ مَالَ إلَى الْوِفَاقِ يَأْخُذُ الْقَبَاءَ وَيُعْطِيهِ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ لَمْ يَرْضَ بِالْمُسَمَّى إلَّا مُقَابَلَا بِخِيَاطَةِ الْقَمِيصِ فَإِذَا خَالَفَ فَاتَ رِضَاهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُسَمَّى وَالْخَيَّاطُ لَمْ يَخِطْهُ مَجَّانًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ أَوْ شَبَهِهِ وَلَيْسَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى عَقْدٌ وَلَا شُبْهَةٌ فَلَا يَتَقَوَّمُ وَلَا يَجِبُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا لَوْ خَاطَهُ قَمِيصًا مُخَالِفًا لِمَا وَصَفَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى، وَلَوْ خَاطَهُ سَرَاوِيلَ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْقَبَاءِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لِلتَّفَاوُتِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْهَيْئَةِ وَقِيلَ يُخَيَّرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِوُجُودِ الِاتِّحَادِ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ مِنْ حَيْثُ السَّتْرُ وَدَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَلِوُجُودِ الْمُوَافَقَةِ فِي نَفْسِ الْخِيَاطَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ نُحَاسًا فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَضْرِبَ لَهُ شَبَهًا مِنْ الْأَوَانِي فَضَرَبَ لَهُ خِلَافَهُ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فَكَذَا هَذَا
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا ضَمِنَ فِيمَا إذَا حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الشُّرُوطِ مِنْ مَبْسُوطِهِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِهِ بِنَفْسِهِ فَحَمَلَهُ عَلَى دَوَابِّهِ أَوْ عَبِيدِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمْ وَذَهَبَ مَعَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَكَانَ لَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الطَّعَامِ، وَقَدْ أَوْفَاهُ كَمَا الْتَزَمَ وَلَيْسَ هُوَ مُخَالِفًا؛ لِأَنَّهُ مَا فَارَقَ الطَّعَامَ حِينَ ذَهَبَ مَعَهُ وَلَا أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَ لَهُ طَرِيقًا فَحَمَلَهُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الطَّعَامِ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فِي أَيِّ الطَّرِيقِينَ حَمَلَهُ وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ ضَمِنَهُ إنْ غَرِقَ؛ لِأَنَّهُ عَرَّضَهُ لِلتَّلَفِ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ رَاكِبِ الْبَحْرِ أَنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ مَعَ مَا مَعَهُ وَإِنْ سَلِمَ فَلَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا آمِنٌ وَالْآخَرُ مَخُوفٌ فَحَمَلَهُ فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ فَإِنْ تَلِفَ كَانَ ضَامِنًا وَإِنْ سَلِمَ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ اسْتِحْسَانًا فَكَذَلِكَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُودِعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ فِي طَرِيقِ الْبَحْرِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ. اهـ.
(قَوْلُهُ بِأَنْ يَضْرِبَ لَهُ شَبَهًا) قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الشَّبَهُ بِفَتْحَتَيْنِ مَا يُشْبِهُ الذَّهَبَ فِي لَوْنِهِ وَهُوَ نُحَاسٌ أَحْمَرُ يُضَافُ إلَيْهِ أَشْيَاءُ وَيُسْبَكُ مَعَهَا فَيَكْتَسِبُ لَوْنَ الذَّهَبِ وَالشَّبَهُ أَيْضًا وَالشَّبِيهُ مِثْلُ كَرِيمٍ وَالشَّبَهُ مِثْلُ حَمْلِ الْمُشَابِهِ. اهـ
[بَابُ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute