وَكَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ الْمَرِيضِ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَنْوَاعُهَا فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ كَفَالَةٌ بِالنَّفْسِ وَكَفَالَةٌ بِالْمَالِ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ نَوْعَانِ كَفَالَةٌ بِالدُّيُونِ فَتَجُوزُ مُطْلَقًا إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً وَكَفَالَةٌ بِالْأَعْيَانِ، وَهِيَ نَوْعَانِ كَفَالَةٌ بِأَعْيَانٍ مَضْمُونَةٍ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا وَذَلِكَ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمُهُورِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَفَالَةٌ بِأَعْيَانٍ هِيَ أَمَانَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدَائِعِ، وَالْمُضَارَبَاتِ، وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبِ التَّسْلِيمِ، فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا أَصْلًا وَكَفَالَةٌ بِأَعْيَانٍ هِيَ أَمَانَةٌ وَاجِبَةُ التَّسْلِيمِ كَالْعَارِيَّةِ، وَالْمُسْتَأْجَرَةِ، أَوْ بِعَيْنٍ مَضْمُونَةٍ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ بِهَا لَا تَصِحُّ وَبِتَسْلِيمِهَا تَصِحُّ وَأَلْفَاظُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْمَتْنِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَصِحُّ بِالنَّفْسِ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ) أَيْ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْكَفَالَةُ بِأَنْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا، ثُمَّ كَفِيلًا، وَكَذَا تَجُوزُ إذَا تَعَدَّدَتْ النُّفُوسُ الْمَكْفُولُ بِهَا أَيْضًا كَمَا تَجُوزُ بِالدُّيُونِ الْكَثِيرَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ لَا سِيَّمَا إذَا تَكَفَّلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَادُ لَهُ وَلَا يَلْتَزِمُ طَاعَتَهُ، وَكَذَا إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ لَا يُثْبِتُ لَهُ وِلَايَةً فِي مَالِهِ لِيُؤَدِّيَ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ، فَالنَّفْسُ، أَوْلَى فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ طَيْرًا فِي الْهَوَاءِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى مَالِ الْآمِرِ فَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ فَيُؤَدِّي مِنْ مَالِهِ وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، أَوْ بِالْمَالِ فَيَقْتَضِي شَرْعِيَّتَهَا وَلَا يُقَالُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا غُرْمَ فِيهَا، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْغُرْمُ عِبَارَةٌ عَنْ ضَرَرٍ يَلْزَمُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: ٦٥] وَفِيهِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَيْهَا ضَرُورَةَ إحْيَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهَا بِأَنْ يُعْلِمَهُ مَكَانَهُ فَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؛ إذْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمٌ، أَوْ يُوَافِقَهُ إذَا ادَّعَاهُ، أَوْ يُكْرِهَهُ بِالْحُضُورِ إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، وَالْتِزَامُهُ لِذَلِكَ وَرِضَا خَصْمِهِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَتِهِ فَتَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ اسْتَعَانَ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي فَكَانَتْ مُفِيدَةً وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصْلِ؛ إذْ تَسْلِيمُ النَّفْسِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَاجِبٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إذَا ادَّعَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ الْحُضُورِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور: ٤٨] الْآيَةَ، وَالذَّمُّ يُسْتَحَقُّ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَعَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ أَجَازُوا الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ وَضَمِنَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنَفْسِ عَلِيٍّ حِينَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ خُصُومَةٌ «وَكَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا بِتُهْمَةٍ»، وَالتَّكْفِيلُ أَخْذُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ وَلِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الِالْتِزَامِ أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَزِمُ مُمْكِنًا وُجُودُهُ عَقْلًا لَا حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا الْتَزَمَ أَلْفَ حَجَّةٍ بِالنَّذْرِ يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ حَقِيقَةً لِقِصَرِ عُمْرِهِ عَادَةً وَقُدْرَتُهُ عَلَى إحْضَارِهِ مُمْكِنٌ فَتَصِحُّ، وَإِذَا صَحَّتْ تَصِحُّ مُتَعَدِّدَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا اسْتِحْقَاقُ الْمُطَالَبَةِ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ، وَالِالْتِزَامُ الْأَوَّلُ لَا يُمْنَعُ الِالْتِزَامَ الثَّانِيَ؛ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْهَا التَّوَثُّقُ، فَلَا تَنَافِي.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (بِكَفَلْتُ بِنَفْسِهِ وَبِمَا عَبَّرَ عَنْ الْبَدَنِ وَبِجُزْءٍ شَائِعٍ) أَيْ تَصِحُّ الْكَفَالَة بِقَوْلِهِ كَفَلْت بِنَفْسِ فُلَانٍ، أَوْ بِمَا يُعَبَّرُ بِهِ مِنْ أَعْضَائِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ كَرَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَرَقَبَتِهِ وَعُنُقِهِ وَجَسَدِهِ وَبَدَنِهِ بِأَنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِرَأْسِهِ، أَوْ بِوَجْهِهِ إلَى آخِرِهِ، أَوْ تَكَفَّلَ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهُ بِأَنْ قَالَ تَكَفَّلْت بِثُلُثِهِ، أَوْ بِرُبْعِهِ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ عُرْفًا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
[ الْكِفَالَة بِالنَّفْسِ وَإِنَّ تَعَدَّدَتْ]
قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجُوزُ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ ثُمَّ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَا تَجُوزُ وَهُوَ قَوْلٌ لَهُ مُخَالِفٌ لِلْقَوْلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ كَقَوْلِنَا اهـ.
(قَوْلُهُ: فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ) وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْغُرْمَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَالِ بَلْ الْغُرْمُ أَدَاءُ مَا يَلْزَمُ مِمَّا يَضُرُّهُ وَالْغُرْمُ اللَّازِمُ ذَكَرَهُ فِي الْمُجْمَلِ وَالْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْإِحْضَارُ وَقَدْ يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَالَةِ الْمَالِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ مَاسَّةٌ وَقَدْ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَحَاصِلُهُ إلْحَاقُهُ بِجَامِعِ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا إحْيَاءً لِلْحُقُوقِ مَعَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالشَّرَائِطِ اهـ.
(قَوْلُهُ: وَفِيهِ) أَيْ الضَّرَرُ مَوْجُودٌ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِأَنَّهُ يُلْزَمُ بِإِحْضَارِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ اهـ. .
(قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ بِكَفَلْتُ بِنَفْسِهِ إلَخْ) شُرُوعٌ فِي ذِكْرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْكَفَالَةُ وَهِيَ صَرِيحٌ وَكِتَابَةٌ فَالصَّرِيحُ كَفَلْت وَضَمِنْت وَزَعِيمٌ وَقَبِيلٌ وَحَمِيلٌ وَعَلَيَّ وَإِلَيَّ، وَلَك عِنْدِي هَذَا الرَّجُلُ وَعَلَيَّ أَنْ أُوَافِيَكَ بِهِ أَوْ عَلَيَّ أَنْ أَلْقَاكَ بِهِ أَوْ دَعْهُ إلَيَّ وَحَمِيلٌ بِالْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى كَفِيلٍ بِهِ يُقَالُ حَمَلَ بِهِ حَمَالَةً بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي وَكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ وَرُوِيَ فِي الْفَائِقِ الْحَمِيلُ ضَامِنٌ وَأَمَّا الْقَبِيلُ فَهُوَ أَيْضًا بِمَعْنَى الْكَفِيلِ وَيُقَالُ قَبِلَ بِهِ قَبَالَةً بِفَتْحِهَا فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ ثُمَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُوجِبُ لُزُومَ مُوجَبِ الْكَفَالَةِ إذَا أُضِيفَتْ إلَى جُمْلَةِ الْبَدَنِ أَوْ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْجُمْلَةِ حَقِيقَةً فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَمَا لَا فَلَا عَلَى وِزَانِ الطَّلَاقِ عَلَى مَا مَرَّ مِثْلُ كَفَلْت أَوْ أَنَا حَمِيلٌ أَوْ زَعِيمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ رَقَبَتِهِ أَوْ رُوحِهِ أَوْ جَسَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ وَجْهِهِ لِأَنَّ هَذِهِ يُعَبَّرُ بِهَا حَقِيقَةً كَالنَّفْسِ وَالْجَسَدِ وَالْبَدَنِ عُرْفًا وَلُغَةً وَمَجَازًا كَهُوَ رَأْسٌ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وَتَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا إذَا كَفَلَ بِعَيْنِهِ قَالَ الْبَلْخِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ كَمَا فِي الطَّلَاقِ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْبَدَنَ وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ فِي الْكَفَالَةِ وَالطَّلَاقِ إذْ الْعَيْنُ مِمَّا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكُلِّ يُقَالُ عَيْنُ الْقَوْمِ وَهُوَ عَيْنٌ فِي النَّاسِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي زَمَانِهِمْ أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ. اهـ. كَمَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ أَوْ بِرُبْعِهِ) أَيْ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِّ الْكَفَالَةِ لَا تَتَجَزَّأُ فَذِكْرُ بَعْضِهَا شَائِعًا كَذِكْرِ كُلِّهَا اهـ.
كَمَالٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَوْلُهُ لَا تَتَجَزَّأُ بِأَنْ يَكُونَ بِبَعْضِهَا كَفِيلًا وَبَعْضُهَا لَا اهـ. .