بَابُ الْجِنَايَاتِ.
وَهُوَ اسْمُ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَكُونُ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ، وَأَصْلُهُ مَنْ جَنَى الثَّمَرَ إذَا أَخَذَهُ مِنْ الشَّجَرِ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الشَّرِّ فَبَقِيَ كَذَلِكَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (تَجِبُ شَاةٌ إنْ طَيَّبَ مُحْرِمٌ عُضْوًا) وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّأْسِ وَالْفَخِذِ وَالسَّاقِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَلُ تَكَامُلِ الِارْتِفَاقِ، وَذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمُوجِبِ، وَإِنْ أَكَلَ طِيبًا كَثِيرًا يَجِبُ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: تَجِبُ الصَّدَقَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ اسْتِعْمَالَ الطِّيبِ، وَلَهُ أَنَّهُ إذَا اسْتَعْمَلَهُ كَثِيرًا يَلْتَزِقُ بِأَكْثَرِ فَمِهِ، أَوْ كُلِّهِ، وَهُوَ عُضْوٌ كَامِلٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِلَّا تَصَدَّقَ) أَيْ وَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجِبُ بِقَدْرِهِ مِنْ الدَّمِ، وَفِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ إذَا طَيَّبَ رُبْعَ الْعُضْوِ فَعَلَيْهِ دَمٌ اعْتِبَارًا بِالْحَلْقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ مُعْتَادٌ فَيَتَكَامَلُ الِارْتِفَاقُ، وَتَطْيِيبُ بَعْضِ الْعُضْوِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَلَا يَتَكَامَلُ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ الْكَثْرَةَ تُعْتَبَرُ فِي نَفْسِ الطِّيبِ لَا فِي الْعُضْوِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا مِثْلَ كَفَّيْنِ مِنْ مَاءِ الْوَرْدِ وَكَفٍّ مِنْ الْغَالِيَةِ وَبِقَدْرِ مَا يَسْتَكْثِرُهُ النَّاسُ مِنْ الْمِسْكِ يَكُونُ كَثِيرًا، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فِي نَفْسِهِ، وَالْقَلِيلُ مَا يَسْتَقِلُّهُ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ كَثِيرًا، وَكَفٌّ مِنْ مَاءِ الْوَرْدِ يَكُونُ قَلِيلًا
وَقِيلَ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا هُوَ الصَّحِيحُ فَيُقَالُ: إنْ كَانَ الطِّيبُ قَلِيلًا فَالْعِبْرَةُ لِلْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلِلطِّيبِ، وَلَهُ تَشْهَدُ الْمَسَائِلُ كَأَكْلِ الطِّيبِ عَلَى مَا مَرَّ وَكَمَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ مَنْ مَسَّ طِيبًا بِأُصْبُعِهِ فَأَصَابَهَا كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَفِيهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ طَيَّبَ شَارِبَهُ كُلَّهُ أَوْ بِقَدْرِهِ مِنْ لِحْيَتِهِ أَوْ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَقَالُوا إذَا اكْتَحَلَ بِالْكُحْلِ الْمُطَيِّبِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَمِثْلُهُ الْأَنْفُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَفِي مَنَاسِكِ الْكَرْمَانِيِّ لَوْ طَيَّبَ جَمِيعَ أَعْضَائِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ فِي أَعْضَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ يُجْمَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ فَإِنْ بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ، وَلَوْ شَمَّ طِيبًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا مُجَمَّرًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ أَجْمَرَ ثَوْبَهُ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَ فِيهِ الدَّمُ تُجْزِيهِ الشَّاةُ إلَّا مَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ وَجَبَ فِيهِ صَدَقَةٌ فَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ إلَّا مَا يَجِبُ بِقَتْلِ جَرَادَةٍ أَوْ قَمْلٍ أَوْ بِإِزَالَةِ شَعَرَاتٍ قَلِيلَةٍ مِنْ رَأْسِهِ أَوْ عُضْوٍ آخَرَ مِنْ أَعْضَائِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَوْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِحِنَّاءٍ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَجِبُ شَاةٌ إنْ طَيَّبَ مُحْرِمٌ عُضْوًا لَا عَلَى مَا يَلِيهِ؛ لِأَنَّ الْحِنَّاءَ طِيبٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَإِذَا كَانَ طِيبًا وَقَدْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ وَهَذَا إذَا كَانَ مَائِعًا وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّدًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ دَمٌ لِلتَّطْيِيبِ وَدَمٌ لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ثُمَّ قَالَ فِي الْأَصْلِ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْحِنَّاءِ، وَأَفْرَدَ الرَّأْسَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ مَضْمُونٌ بِالدَّمِ، وَالْوَاوُ فِي: وَلِحْيَتُهُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى أَوْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: ٣] وَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِطِيبٍ، وَإِنَّمَا تُغَيِّرُ لَوْنَ الشَّعْرِ، فِيهَا زِينَةٌ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
[ بَابُ الْجِنَايَاتِ فِي الْحَجّ]
بَابُ الْجِنَايَاتِ} لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُحْرِمِينَ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْعَوَارِضِ مِنْ الْجِنَايَاتِ وَالْإِحْصَارِ وَالْفَوَاتِ ثُمَّ الْجِنَايَاتُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ مَا لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِعْلُهُ وَقِيلَ هِيَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا مِنْ قَوْلِهِمْ جَنَى عَلَيْهِ شَرًّا أَيْ كَسَبَهُ، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى الْغَصْبِ إلَّا أَنَّ الْغَصْبَ أَخَصُّ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ يُسَمَّى غَصْبًا إذَا وَقَعَ فِي الْمَالِ، وَالْجِنَايَةُ أَعَمُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَالْمَالِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ الْجِنَايَةُ مَا يَجْنِيهِ مِنْ شَرٍّ أَيْ يُحْدِثُهُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ مِنْ جَنَى عَلَيْهِ شَرًّا وَهُوَ عَامٌّ إلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِمَا يَحْرُمُ مِنْ الْفِعْلِ اهـ (قَوْلُهُ: وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّهُ يَجِبُ بِقَدْرِهِ مِنْ الدَّمِ) أَيْ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ. اهـ. هِدَايَةٌ يَعْنِي يُعْتَبَرُ كَمْ قَدْرُهُ مِنْ قَدْرِ مَا يُوجِبُ الدَّمَ فَيَكُونُ عَلَيْهِ بِحِسَابِ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ نِصْفَ الْعُضْوِ يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدَّمِ، وَإِنْ كَانَ رُبْعَ الْعُضْوِ يَجِبُ عَلَيْهِ رُبْعُ الدَّمِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ كَمَا فِي الْحِسِّيَّاتِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِدِينَارٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ بِنِصْفِ دِينَارٍ بِالضَّرُورَةِ اهـ (قَوْلُهُ وَكَفٌّ مِنْ الْغَالِيَةِ) كَذَا بِخَطِّ الشَّارِحِ وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَكَفٌّ مِنْ مَاءِ الْغَالِيَةِ وَهُوَ خَطَأٌ وَلَيْسَ فِي خَطِّ الشَّارِحِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَفِي مَنَاسِكِ الْكَرْمَانِيِّ لَوْ طَيَّبَ جَمِيعَ أَعْضَائِهِ إلَخْ) فِي الْبَدَائِعِ إنْ طَيَّبَ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ، أَوْ لَمْ يَذْبَحْ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْجِمَاعِ اهـ
(قَوْلُهُ وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا مُجَمَّرًا) أَيْ فَطَالَ مُكْثُهُ فِي الْبَيْتِ فَعَلِقَ بِثَوْبِهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) أَيْ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ هَاهُنَا لَيْسَتْ بِمُتَعَلِّقَةٍ بِالْعَيْنِ، وَمُجَرَّدُ الرِّيحِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ) أَيْ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعَيْنِ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَهَا فِي بَدَنِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَطَيَّبَ بِهَا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: أَوْ عُضْوًا آخَرَ مِنْ أَعْضَائِهِ) أَيْ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ فِيهَا بِمَا شَاءَ اهـ وَقَالَ فِي التُّحْفَةِ: فَهُوَ كَفٌّ مِنْ الطَّعَامِ. اهـ. (قَوْلُهُ: لَا عَلَى مَا يَلِيهِ) يَعْنِي قَوْلَهُ: وَإِلَّا تَصَدَّقَ. اهـ. (قَوْلُهُ: الْحِنَّاءُ طِيبٌ) قَالَ فِي الصِّحَاحِ فِي فَصْلِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ بَابِ الْهَمْزَةِ: الْحِنَّاءُ بِالْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَالْحِنَّاءُ فُعَالٌ اهـ (قَوْلُهُ وَدَمٌ لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ) يَعْنِي إذَا غَطَّاهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ اهـ أك (قَوْلُهُ: وَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسِمَةِ) الْوَسِمَةُ بِكَسْرِ السِّينِ فِي لُغَةِ الْحِجَازِ، وَهِيَ أَفْصَحُ مِنْ السُّكُونِ، وَأَنْكَرَ الْأَزْهَرِيُّ السُّكُونَ وَقَالَ: كَلَامُ الْعَرَبِ بِالْكَسْرِ نَبْتٌ يُخْتَضَبُ بِوَرَقِهِ، وَيُقَالُ هُوَ الْعِظْلِمُ كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ وَفِي الصِّحَاحِ وَالْوَسِمَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute