للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا أَقَرَّ عِنْدَ غَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ لِمَا مَرَّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيُحْبَسُ الرَّجُلَ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ) لِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْإِنْفَاقِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، فَإِنْ لَمْ تَسْقُطْ بِأَنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِهَا أَوْ اصْطَلَحَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَدَلِ مَالٍ، وَلَا لَزِمَتْهُ بِعَقْدٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لَا فِي دَيْنِ وَلَدِهِ) أَيْ لَا يُحْبَسُ الْوَالِدُ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِسَبَبِ وَلَدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، وَلَا بِقَتْلِ مُوَرِّثِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ، وَلَا بِقَذْفِ أُمِّهِ الْمَيِّتَةِ بِطَلَبِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (إلَّا إذَا أَبَى مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ) يَعْنِي لَا يُحْبَسُ بِسَبَبِ الِابْنِ إلَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُحْبَسُ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لِحَاجَةِ الْوَقْتِ وَهُوَ بِالْمَنْعِ قَصَدَ إهْلَاكَهُ فَيُحْبَسُ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِقَتْلِهِ إذَا شَهَرَ عَلَيْهِ السَّيْفَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ وَلِأَنَّ دَيْنَ النَّفَقَةِ يَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، فَلَوْ لَمْ يُحْبَسْ عَلَيْهَا تَفُوتُ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، فَلَا يَخَافُ فِيهَا الْفَوَاتَ وَهَكَذَا حُكْمُ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَكَذَا الْمَوْلَى لَا يُحْبَسُ بِدَيْنِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ؛ لِأَنَّ مَالَهُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحْبَسُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَبْسَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءَ وَهُمْ أَجَانِبُ، فَلَا يَمْتَنِعُ، وَلَا يُحْبَسُ الْعَبْدُ بِدَيْنِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَالْمَوْلَى يُحْبَسُ بِدَيْنِ مُكَاتَبِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ لَا يُحْبَسُ لِوُقُوعِ الْمُقَاصَّةِ بِهِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ فَقَدْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ فَلَهُ أَخْذُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ بِالدَّيْنِ إلَّا بِرِضَاهُ وَالْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَيَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ مِنْ مَالِهِ فَكَذَا يُحْبَسُ بِدَيْنِهِ إذَا ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالْمُمَاطَلَةِ، وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ لِمَوْلَاهُ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ ظَالِمًا بِالِامْتِنَاعِ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ فَسْخِ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا مَوْلَاهُ وَيُحْبَسُ بِدَيْنٍ آخَرَ عَلَيْهِ غَيْرِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَسْخِ سَبَبِ ذَلِكَ الدَّيْنِ.

وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يُحْبَسُ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِسْقَاطِ أَيْضًا بِأَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ فَيُرَدَّ رَقِيقًا فَيَسْقُطُ عَنْهُ دَيْنُ الْمَوْلَى فَصَارَ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَالَةَ بِهِ لَا تَجُوزُ كَمَا لَا تَجُوزُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ صِلَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ، ثُمَّ صِفَةُ الْحَبْسِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ فِرَاشٌ، وَلَا وِطَاءٌ، وَلَا يُخَلَّى أَحَدٌ يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِيَسْتَأْنِسَ بِهِ، وَلَا يُخْرَجُ لِجُمُعَةٍ، وَلَا لِجَمَاعَةٍ، وَلَا لِحَجٍّ فَرْضٍ، وَلَا لِحُضُورِ جِنَازَةٍ، وَلَوْ أَعْطَى كَفِيلًا، وَلَا لِمَجِيءِ رَمَضَانَ، وَلَا لِلْأَعْيَادِ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ وَيُوفِيَ، وَلَا يُخْرَجُ لِمَوْتِ قَرِيبِهِ إلَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ فَيُخْرَجُ حِينَئِذٍ لِقَرَابَةِ الْوِلَادِ وَفِي رِوَايَةٍ يُخْرَجُ، وَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُجَهِّزُهُ، وَإِنْ مَرِضَ مَرَضًا أَضْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ لَا يُخْرَجُ وَإِلَّا أُخْرِجَ وَلَا يُخْرَجُ لِلْمُعَالَجَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْمُعَالَجَةُ فِي السِّجْنِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الْجِمَاعِ لَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ فِي السِّجْنِ مَوْضِعٌ يَسْتُرُهُ لِأَنَّ اقْتِضَاءَ شَهْوَةِ الْفَرْجِ كَاقْتِضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَقِيلَ يُمْنَعُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ بِخِلَافِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَإِنَّ مَنْعَهُ يُؤَدِّي إلَى الْهَلَاكِ وَهُوَ يُرَخَّصُ لَهُ تَنَاوُلُ مَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ خَوْفًا مِنْ الْهَلَاكِ فَكَيْفَ يَجُوزُ قَتْلُهُ لِأَجْلِ الدَّيْنِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ قَرَابَتِهِ وَجِيرَانِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ لِلْمُشَاوِرَةِ وَالتَّدْبِيرِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَكِنْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْمُكْثِ طَوِيلًا وَالْمَالُ الَّذِي يُحْبَسُ فِيهِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ حَتَّى يُحْبَسُ فِي دِرْهَمٍ وَمَا دُونَهُ؛ لِأَنَّ مَانِعَهُ ظَالِمٌ مُتَعَنِّتٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

[بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَغَيْرِهِ]

(بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَغَيْرِهِ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ لَيْسَ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ إمَّا نَقْلُ شَهَادَةٍ أَوْ نَقْلُ حُكْمٍ وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهُ وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْقُضَاةِ فَكَانَ ذِكْرُهُ فِيهِ أَنْسَبُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَكْتُبُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ كِتَابَهُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ عِبَارَتِهِ، فَلَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَعَبَّرَ بِلِسَانِهِ مَا فِي الْكِتَابِ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَكِتَابُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ يُزَوَّرُ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَكَذَا الْخَاتَمُ يُشْبِهُ الْخَاتَمَ فَكَانَ أَكْثَرَ احْتِمَالًا مِنْ الْبَيِّنَةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَغَيْرِهِ) (قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْقُضَاةِ) أَيْ وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى اثْنَيْنِ وَالْحَبْسُ يَتِمُّ بِقَاضٍ وَاحِدٍ وَالْوَاحِدُ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاثْنَيْنِ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَيَكْتُبُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ) وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ كِتَابَهُ يَنْقُلُ شَهَادَةَ الْأُصُولِ كَمَا أَنَّ الْفُرُوعَ يَنْقُلُونَ بِشَهَادَتِهِمْ شَهَادَةَ الْأُصُولِ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَجُوزُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي فِيهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ، وَالْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَلِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُزَوَّرُ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ قَدْ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَيَتَمَكَّنُ نَوْعُ شُبْهَةٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>