للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ تَمْهِيدًا لِلْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا وَقَدْ عَهِدْنَا نُفُوذَ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بِاللِّعَانِ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَأَحَدُهُمَا كَاذِبٌ بِيَقِينٍ، وَكَذَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَتَحَالَفَا يَفْسَخُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا الْبَيْعَ فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ بَاطِنًا حَتَّى يَحِلَّ لِلْبَائِعِ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ فَكَذَا فِي كُلِّ الْفُسُوخِ وَالْعُقُودِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا ذَكَرُوا لِأَنَّا نَجْعَلُ حُكْمَ الْحَاكِمِ إنْشَاءً وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ قَابِلًا.

فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَ زَوْجٍ أَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً لَا يُقْبَلُ الْإِنْشَاءُ وَإِنَّمَا لَا يُشْتَرَطُ الشُّهُودُ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مُقْتَضًى فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الْقَضَاءِ وَمَا ثَبَتَ اقْتِضَاءً لَا يُرَاعَى فِيهِ شَرَائِطُهُ وَشَهَادَةُ الْعَبِيدِ وَنَحْوِهِمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا بِخِلَافِ الْفُسَّاقِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمْ حُجَّةً وَإِنَّمَا لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ؛ لِأَنَّ فِي أَسْبَابِ الْمِلْكِ تَزَاحُمًا وَلَيْسَ تَعْيِينُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ وَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ مُطْلَقًا بِغَيْرِ سَبَبٍ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ فَتَعَيَّنَ الْإِلْغَاءُ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى سَبَبًا مُعَيَّنًا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْإِقَالَةِ وَالْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ رِوَايَتَانِ، وَكَذَا فِي الْبَيْعِ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فِي رِوَايَةٍ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ التَّبَرُّعَاتِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَالْبَيْعُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ تَبَرُّعٌ مِنْ وَجْهٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَنْفُذُ لِأَنَّ النُّفُوذَ فِي ضِمْنِ صِحَّةِ الْقَضَاءِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرَائِطُهُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَحَلٍّ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ وَالْعَبْدَ الْمَأْذُونَ يَمْلِكَانِهِ وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا أَبَانَهَا بِثَلَاثٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ فَجَحَدَ الزَّوْجُ فَحَلَّفَهُ الْقَاضِي فَحَلَفَ إنْ عَلِمَتْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَتْ لَا يَسَعُهَا الْإِقَامَةُ مَعَهُ، وَلَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْئًا وَهَذَا لَا يُشْكِلُ فِيمَا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا لِبُطْلَانِ الْمَحَلِّيَّةِ لِلْإِنْشَاءِ قَبْلَ زَوْجٍ آخَرَ، وَفِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ إنْشَاءَ النِّكَاحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْإِنْشَاءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْإِنْشَاءَ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ وَهُنَا لَمْ يَقْضِ بِهِ لِاعْتِرَافِ الزَّوْجَيْنِ بِالنِّكَاحِ إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ ادَّعَتْ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا وَعَجَزَتْ عَنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَيَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَلَمْ يَحْتَجْ الْقَاضِي إلَى الْقَضَاءِ بِالنِّكَاحِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يَقْضِي عَلَى غَائِبٍ إلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ كَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ أَوْ يَكُونَ مَا يَدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِي عَلَى الْحَاضِرِ كَمَنْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبَ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى لِهِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ بِالنَّفَقَةِ وَأَبُو سُفْيَانَ غَائِبٌ فَقَالَ لَهَا خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ حُضُورِ خَصْمٍ وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ وُجِدَتْ عَلَى التَّمَامِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ كَاسْمِهَا فَجَازَ الْقَضَاءُ بِهَا كَمَا إذَا كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَلَنَا «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ فَإِنَّك إذَا سَمِعْت كَلَامَ الْآخَرِ عَلِمْت كَيْفَ تَقْضِي» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ.

وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا مُنَازَعَةَ هُنَا لِعَدَمِ الْإِنْكَارِ، فَلَا يَصِحُّ وَلِأَنَّ وَجْهَ الْقَضَاءِ يَشْتَبِهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقِرَّ الْخَصْمُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْكِرَ وَأَحْكَامُهَا مُخْتَلِفَةٌ فَإِنَّهُ بِالْإِقْرَارِ يَقْتَصِرُ وَبِالْبَيِّنَةِ يَتَعَدَّى، فَلَا يَجُوزُ مَعَ الِاشْتِبَاهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ فَإِنَّك إذَا سَمِعْت كَلَامَ الْآخَرِ عَلِمْت كَيْفَ تَقْضِي» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِوَجْهِ الْقَضَاءِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ وَأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ وَأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِكَلَامِهِمَا وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا إذَا عَجَزَ الْمُنْكِرُ عَنْ الطَّعْنِ فِي الشُّهُودِ وَمَعَ غَيْبَتِهِ لَا يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَلَا حُجَّةَ لَهُمَا فِي حَدِيثِ هِنْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً وَإِنَّمَا كَانَتْ فَتْوَى أَوْ إعَانَةً لَهَا عَلَى أَخْذِ مَالِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمْ تَدَّعِ الزَّوْجِيَّةَ وَلَمْ تُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَالِمًا بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ أَصْلًا، وَكَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» لَيْسَ لَهُمَا فِيهِ حُجَّةٌ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْبَيَانُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، وَلَا فِي حَقِّ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ عَالِمٌ بِحَقِّهِ وَالْقَاضِي

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ وَالنِّكَاحُ) وَإِنَّمَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ إذَا كَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَيْسَ فِي وِلَايَةِ الْقَاضِي، فَلَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ. اهـ. (قَوْلُهُ وَفِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ رِوَايَتَانِ) قَالَ فِي الْمُحِيطِ، وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةَ زُورٍ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَ مِنْهُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَقَبَضَهَا مِنْهُ، وَهُوَ فِي يَده بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا عِنْدَهُمَا وَهَلْ يَنْفُذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يَنْفُذُ كَمَا فِي الشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مُعَيَّنٌ يَدَّعِيه الْمُدَّعِي وَأَمْكَنَ الْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ بِالسَّبَبِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَنْفُذُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْخَصَّافِ كَمَا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ. اهـ. .

[الْقَضَاء عَلَى غَائِب]

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقِرَّ الْخَصْمُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْكِرَ) بَلْ الظَّاهِرُ مِنْهُ الْإِقْرَارُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ صَادِقٌ ظَاهِرًا لِوُجُودِ دِينِهِ وَعَقْلِهِ الصَّارِفَيْنِ عَنْ الْكَذِبِ الدَّاعِيَيْنِ إلَى الصِّدْقِ، فَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي صَادِقًا لَا يُنْكِرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الصِّدْقَ لِدِينِهِ وَعَقْلِهِ، فَإِذَا كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ الْإِقْرَارَ لَا يَقْضِي بِالْبَيِّنَةِ اهـ غَايَةٌ.

(قَوْلُهُ وَأَحْكَامُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ) فَحُكْمُ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَيَظْهَرُ فِي الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ وَحُكْمُ الْقَضَاءِ بِالْإِقْرَارِ خِلَافُ ذَلِكَ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَأَنَّ الْجَهْلَ بِهِ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمُ قَاضٍ أَمْضَاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ فَلْيُنْظَرْ اهـ.

قَوْلُهُ عِنْد قَوْلِهِ يَعْنِي فِي الْمَتْن الَّذِي تَقَدَّمَ (قَوْلُهُ وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَالِمًا بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ أَصْلًا) وَمِمَّا يُرَجِّحُهُ وُقُوعُ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْقِصَّةِ فِي قَوْلِهَا هَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ وَأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَوَّضَ إلَيْهَا تَقْدِيرَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءً لَمْ يُفَوِّضْهُ إلَى الْمُدَّعِي وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحْلِفْهَا عَلَى مَا ادَّعَتْ وَلَا كَلَّفَهَا الْبَيِّنَةَ اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>