للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُجُوعٌ وَلَا رُجُوعَ فِي الْأَيْمَانِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: ٢٤] أَيْ إذَا نَسِيت الِاسْتِثْنَاءَ مَوْصُولًا فَاسْتَثْنِ مَفْصُولًا وَلَا يُؤَدِّي هَذَا الْقَوْلُ إلَى أَنْ تَكُونَ الْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا غَيْرَ مُلْزِمَةٍ وَإِخْرَاجُهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُقَيِّدَةً لِأَحْكَامِهَا لِأَنَّهُ يَبِيعُ أَوْ يَتَزَوَّجُ أَوْ يُطَلِّقُ ثُمَّ يَسْتَثْنِي أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ فَلَوْ كَانَ هَذَا يَصِحُّ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الزَّوْجِ الثَّانِي حَتَّى تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَلْ كَانَ يُؤْمَرُ بِالِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى تَبْطُلَ الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ بِهِ وَكَذَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ أَحْكَامَ الْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَفْصُولُ جَائِزًا لَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الْحِنْثُ وَلَا الْإِثْمُ وَمَعْنَى الْآيَةِ إذَا نَسِيت فِي أَوَّلِ كَلَامِكِ فَاذْكُرْهُ فِي آخِرِهِ مَوْصُولًا

وَرُوِيَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ صَاحِبَ الْمَغَازِي كَانَ عِنْدَ الْمَنْصُورِ فَكَانَ يَقْرَأُ عِنْدَهُ الْمَغَازِي وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ حَاضِرًا عِنْدَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُغْرِي الْخَلِيفَةَ عَلَيْهِ فَقَالَ إنَّ هَذَا الشَّيْخَ يُخَالِفُ جَدَّكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ فَقَالَ لَهُ أَبَلَغَ مِنْ قَدْرِكَ أَنْ تُخَالِفَ جَدِّي فَقَالَ إنَّ هَذَا يُرِيدُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْك مِلْكَك لِأَنَّهُ إذَا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْفَصِلُ فَبَارَكَ اللَّهُ لَك فِي عُهُودِك إذًا فَإِنَّ النَّاسَ يُبَايِعُونَك وَيَحْلِفُونَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ وَيَسْتَثْنُونَ ثُمَّ يُخَالِفُونَ وَلَا يَحْنَثُونَ فَقَالَ نِعْمَ مَا قُلْت وَغَضِبَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ عِنْدِهِ وَقَالَ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اُسْتُرْ هَذَا عَلَيَّ ثُمَّ إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُبْطِلٌ لِلْكَلَامِ وَمُخْرِجٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ

وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا عَمَلَ لِلِاسْتِثْنَاءِ بَلْ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِهِ حُكْمُ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ تَبَرُّكًا وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا وَفِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَةٍ عَنْ قَوْلِ مُوسَى لِلْخَضِرِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: ٦٩] مَا يَرُدُّ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يُعَاتِبْ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَهُ لَعُوتِبَ لِأَنَّ الْوَعْدَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ بِرُّ عَدَمِ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ فِيهِ عَدَمُ الْحِنْثِ كَالْبِرِّ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

(بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ وَالسُّكْنَى وَالْإِتْيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ عِنْدَنَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَحَقُّ بِالْإِرَادَةِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْفَصِلُ) أَيْ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ. اهـ. كَافِي (قَوْلُهُ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ) أَيْ الْمُصَنِّفِ. اهـ.

[بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ وَالسُّكْنَى وَالْإِتْيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ]

لَمَّا كَانَ انْعِقَادُ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِ شَيْءٍ ذَكَرَ الْأَفْعَالَ الَّتِي تَنْعَقِدُ عَلَيْهَا الْيَمِينُ بَابًا بَابًا إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ هَذَا الْبَابَ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ إلَى مَسْكَنٍ يَدْخُلُ فِيهِ وَيَسْتَقِرُّ ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ سَائِرُ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: ٢٢] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ الرِّزْقَ بَعْدَ جَعْلِ الْأَرْضِ فِرَاشًا قَالَهُ الْأَتْقَانِيُّ انْتَهَى قَالَ الْكَمَالُ وَكُلٌّ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ لَكِنَّ حَاجَةَ الْحُلُولِ فِي مَكَان أَلْزَمُ لِلْجِسْمِ مِنْ أَكْلِهِ وَلُبْسِهِ انْتَهَى

(قَوْلُهُ اعْلَمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ عِنْدَنَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ) لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ الْعُرْفِيِّ أَعْنِي الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُرَادُ بِهَا مَعَانِيهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا فِي الْعُرْفِ كَمَا أَنَّ الْعَرَبِيَّ حَالَ كَوْنِهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِالْحَقَائِقِ بِلُغَتِهِ فَوَجَبَ صَرْفُ أَلْفَاظِ الْمُتَكَلِّمِ إلَى مَا عُهِدَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِهَا ثُمَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ جَرَى عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ فَحَكَمَ فِي الْفَرْعِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ والمرغيناني وَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَهْدِمُ بَيْتًا فَهَدَمَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَ حَمَلَ الْكَلَامَ عَلَى الْعُرْفِ بِمَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَصِيرُ الْمُعْتَبَرُ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ إلَّا فِيمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لَيْسَ لَهُ وَضْعٌ لُغَوِيٌّ بَلْ أَخَذَهُ أَهْلُ الْعُرْفِ وَأَنَّ مَالَهُ وَضْعٌ لُغَوِيٌّ وَوَضْعٌ عُرْفِيٌّ يُعْتَبَرُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ مُتَكَلِّمٌ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ وَهَذَا يَهْدِمُ قَاعِدَةَ حَمْلِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ فَإِنَّهُ لَمْ يَصِرْ الْمُعْتَبَرُ إلَّا اللُّغَةَ إلَّا مَا تَعَذَّرَ وَهَذَا بَعِيدٌ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِالْعُرْفِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ سَوَاءٌ كَانَ عُرْفُ اللُّغَةِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ غَيْرَهَا إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا نَعَمْ مَا وَقَعَ اسْتِعْمَالُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ تُعْتَبَرُ اللُّغَةُ عَلَى أَنَّهَا الْعُرْفُ فَأَمَّا الْفَرْعُ الْمَذْكُورَةُ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ نَوَاهُ فِي عُمُومِ بَيْتٍ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ لَهُ وَجَبَ أَنْ لَا يَحْنَثَ لِانْصِرَافِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَنَا بِانْصِرَافِ الْكَلَامِ إلَى الْعُرْفِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ كَانَ مُوجِبُ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مُوجِبًا عُرْفِيًّا لَهُ

وَإِنْ كَانَ لَهُ نِيَّةُ شَيْءٍ وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ انْعَقَدَ الْيَمِينُ بِاعْتِبَارِهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَالْكَعْبَةُ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا بَيْتٌ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: ٩٦] وَكَذَا الْمَسْجِدُ فِي قَوْله تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: ٣٦] وَكَذَا بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ وَكَذَا الْحَمَّامُ وَلَكِنْ إذَا أُطْلِقَ الْبَيْتُ فِي الْعُرْفِ فَإِنَّمَا يُرَادُ مَا يَبَاتُ فِيهِ عَادَةً فَدَخَلَ الدِّهْلِيزُ إذَا كَانَ كَبِيرًا بِحَيْثُ يُبَاتُ فِيهِ لِأَنَّ مِثْلَهُ يُعْتَادُ بَيْتُوتَةً لِلضُّيُوفِ فِي بَعْضِ الْقُرَى وَفِي الْمُدُنِ يَبِيتُ فِيهِ بَعْضُ الْأَتْبَاعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَيَحْنَثُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ صَارَ دَاخِلًا لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ الدَّارِ وَلَهُ سَعَةٌ تَصْلُحُ لِلْمَبِيتِ مِنْ سَقْفٍ يَحْنَثُ بِدُخُولِهِ وَعَلَى هَذَا يَحْنَثُ بِالصِّفَةِ سَوَاءٌ كَانَ لَهَا أَرْبَعُ حَوَائِطَ كَمَا هِيَ صِفَافُ الْكُوفَةُ أَوْ ثَلَاثَةٌ عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُسَقَّفًا كَمَا هِيَ صِفَافُ دِيَارِنَا لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مِفْتَحَهُ وَاسِعٌ وَكَذَا الظُّلَّةُ إذَا كَانَ مَعْنَاهَا مَا هُوَ دَاخِلَ الدَّارِ مُسَقَّفًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَابَاطًا وَهُوَ مَا عَلَى ظَاهِرِ الْبَابِ فِي الشَّارِعِ مِنْ سَقْفٍ لَهُ جُذُوعٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>