الدِّيَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الدِّيَةَ وَأَنْوَاعَهَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ وَأَمَّا وُجُوبُهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ الْمَقْتُولَةِ وَدِيَةِ جَنِينِهَا عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ فَقَالَ أَبُو الْقَاتِلَةِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَذَا مِنْ الْكُهَّانِ»، وَلِأَنَّ النَّفْسَ مُحْتَرَمَةٌ فَلَا وَجْهَ إلَى إهْدَارِهَا وَلَا إيجَابَ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى الْمُخْطِئِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ وَمَرْفُوعٌ عَنْهُ الْخَطَأُ وَفِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إجْحَافِهِ وَاسْتِئْصَالِهِ فَيُضَمُّ إلَيْهِ الْعَاقِلَةُ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ، وَإِنَّمَا كَانُوا أَخَصَّ بِالضَّمِّ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَصِّرُ فِي الِاحْتِرَازِ لِقُوَّةٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا لَا يَحْتَرِزُ فِي أَفْعَالِهِ إذَا كَانَ قَوِيًّا فَكَأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِأَحَدٍ وَتِلْكَ الْقُوَّةُ تَحْصُلُ بِأَنْصَارِهِ غَالِبًا وَهُمْ أَخْطَئُوا بِنُصْرَتِهِمْ لَهُ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِلْإِقْدَامِ عَلَى التَّعَدِّي فَقَصَّرُوا بِهَا عَنْ حِفْظِهِ فَكَانُوا أَوْلَى بِالضَّمِّ إلَيْهِ وَقَوْلُهُ كُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ يُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا يَنْقَلِبُ مَالًا بِالصُّلْحِ أَوْ بِالشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْعَمْدَ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ فَلَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَهِيَ أَهْلُ الدِّيوَانِ إنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ تُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) وَأَهْلُ الدِّيوَانِ أَهْلُ الرَّايَاتِ وَهُمْ الْجَيْشُ الَّذِينَ كُتِبَتْ أَسَامِيهِمْ فِي الدِّيوَانِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى أَهْلِ الْعَشِيرَةِ لِمَا رَوَيْنَا وَكَانَ كَذَلِكَ إلَى أَيَّامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا نَسْخَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ، وَلِأَنَّهَا صِلَةٌ فَالْأَقَارِبُ بِهَا أَوْلَى كَالْإِرْثِ وَالنَّفَقَاتِ وَلَنَا قَضِيَّةُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ بَلْ هُوَ تَقْرِيرُ مَعْنَى الْعَقْلِ كَانَ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ وَقَدْ كَانَتْ بِأَنْوَاعٍ بِالْحَلِفِ وَالْوَلَاءِ وَالْعَدِّ وَهُوَ أَنْ يُعَدُّ الرَّجُلُ مِنْ قَبِيلَةٍ وَفِي عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ صَارَتْ بِالدِّيوَانِ فَجَعَلَهَا عَلَى أَهْلِهِ اتِّبَاعًا لِلْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ كَانَ الْيَوْمَ قَوْمٌ يَتَنَاصَرُونَ بِالْحِرَفِ فَعَاقِلَتُهُمْ أَهْلُ الْحِرْفَةِ وَإِنْ كَانُوا بِالْحَلِفِ فَأَهْلُهُ وَالدِّيَةُ صِلَةٌ كَمَا قَالَ لَكِنَّ إيجَابَهَا فِيمَا هُوَ صِلَةٌ وَهُوَ الْعَطَاءُ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهِمَا فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ وَمَا تَحَمَّلَتْ الْعَاقِلَةُ إلَّا لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّقْدِيرِ بِثَلَاثِ سِنِينَ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْعَطَاءِ لِلتَّخْفِيفِ وَهُوَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ خَرَجَتْ الْعَطَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهَا) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّخْفِيفُ وَقَدْ حَصَلَ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْعَطَايَا لِلسِّنِينَ الْمُسْتَقْبَلَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَتْ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا تُؤْخَذُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ وَلَوْ خَرَجَتْ عَطَايَا ثَلَاثَ سِنِينَ مُسْتَقْبَلَةٍ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ إذْ الْوُجُوبُ بِالْقَضَاءِ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ وَهُوَ التَّخْفِيفُ وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ يَجِبُ فِي سَنَةٍ وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ يَجِبُ فِي سَنَتَيْنِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَكَوْنُ كُلِّ ثُلُثٍ فِي سَنَةٍ ضَرُورَةً وَالْوَاجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْعَاقِلَةِ حَتَّى يَجِبَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا أَوْ انْقَلَبَ الْقِصَاصُ بِالشُّبْهَةِ مَالًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَأَمَّا وُجُوبُهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ثُمَّ الدِّيَةُ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: ٩٢] وَبِالسُّنَّةِ، نَحْوُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا مُنْكِرَ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ أَصْلًا وَوُجُوبُهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ بِحَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ مَا رَوَى صَاحِبُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُ مُسْنَدًا إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ «اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدِيَةِ جَنِينِهَا عَبْدًا أَوْ وَلِيدَةً وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا وَوَرِثَهَا وَلَدُهَا وَمَنْ مَعَهُمْ وَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هَذَا مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ» مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ ثُمَّ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ الْمَفْتُوحَيْنِ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ أَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى بِلَادِ قَوْمِهِ ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى الْبَصْرَةِ وَابْتَنَى بِهَا دَارًا. اهـ. (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ) لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْقَتْلَ، وَكَذَا الَّذِي بَاشَرَ شِبْهَ الْعَمْدِ لِأَنَّ الْآلَةَ لَيْسَتْ بِمَوْضُوعَةٍ لِلْقَتْلِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إجْحَافِهِ) أَيْ إجْحَافِ الْخَاطِئِ أَيْ إهْلَاكِهِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ كُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ) أَيْ ابْتِدَاءً وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي ثَانِي الْحَالِ لَا ابْتِدَاءً كَمَا إذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ حَيْثُ يَكُونُ مُوجَبُ الْقَتْلِ الْقِصَاصَ ابْتِدَاءً وَلَكِنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ إلَى الدِّيَةِ لِشُبْهَةِ الْأُبُوَّةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْأَبِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَا إذَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ صُلْحًا عَنْ الْعَمْدِ يَجِبُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْقَاتِلِ حَالَّةً إلَّا إذَا اشْتَرَطَ التَّأْجِيلَ بِخِلَافِ مَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اهـ أَتْقَانِيٌّ.
[مِنْ تجب عَلَيْهِ الدِّيَة فِي الْمَعَاقِلِ]
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَهِيَ أَهْلُ الدِّيوَانِ) اُنْظُرْ كَلَامَ الشَّارِحِ فِي الْمَقَالَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَفِيهَا مَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَفَوَائِدُ جَلِيلَةٌ اهـ. (قَوْلُهُ بِالْحِلْفِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ الْعَهْدُ وَالْمُرَادُ بِهِ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يُعَدَّ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْمُرَادُ مِنْ الْعَدِّ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلَتِهِمْ يُقَالُ فُلَانٌ عَدِيدُ بَنِي فُلَانٍ. اهـ. (قَوْلُهُ فَجَعَلَهَا) أَيْ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِمْ التَّنَاصُرُ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ مَرْوِيٌّ إلَخْ) أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute