بَيَانِ الْمَنْفَعَةِ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ فِي كُلِّ فَصْلٍ مَا هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ حَتَّى يَكْتُبَ فِي اسْتِعَارَةِ الْأَرْضِ أَنَّك أَطْعَمْتنِي أَرْضَ كَذَا لِأَزْرَعَهَا مَا أَشَاءُ مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ أَوْ الصَّيْفِ؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ وَأَبْعَدُ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(كِتَابُ الْهِبَةِ)
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (هِيَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلَا عِوَضٍ) هَذَا فِي الِاصْطِلَاحِ وَفِي اللُّغَةِ هِيَ التَّبَرُّعُ وَالتَّفَضُّلُ بِمَا يَنْفَعُ الْمَوْهُوبَ لَهُ مُطْلَقًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: ٥]، وَقَالَ تَعَالَى {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: ٤٩] الْآيَةَ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: ٨] وَالْبَشَرُ إذَا بَاشَرَهَا فَقَدْ اكْتَسَبَ مِنْ أَشْرَفِ الصِّفَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ اسْتِعْمَالِ الْكَرَمِ وَإِزَالَةِ شُحِّ النَّفْسِ وَإِدْخَالِ السُّرُورِ فِي قَلْبِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَإِيرَاثِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ بَيْنَهُمَا وَإِزَالَةِ الضَّغِينَةِ وَالْحَسَدِ، وَلِهَذَا مَنْ بَاشَرَهَا كَانَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: ٩] وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ وَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ الْوَاهِبُ عَاقِلًا بَالِغًا حُرًّا وَالْمَوْهُوبُ لَهُ مُمَيِّزًا وَالْمَوْهُوبُ مَقْبُوضًا وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَحُكْمُهَا ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَصِحُّ بِإِيجَابٍ كَ) قَوْلِهِ (وَهَبْتُ وَنَحَلْتُ وَأَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ وَجَعَلْته لَك وَأَعْمَرْتُك هَذَا الشَّيْءَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ نَاوِيًا بِهِ الْهِبَةَ وَكَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَدَارِي لَك هِبَةً تَسْكُنُهَا لَا هِبَةَ سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةٍ وَقَبُولٍ وَقَبْضٍ بِلَا إذْنٍ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ بِهِ فِي مَحُوزٍ مَقْسُومٍ وَمَشَاعٍ لَا يُقْسَمُ لَا فِيمَا يُقْسَمُ) أَيْ تَصِحُّ الْهِبَةُ بِإِيجَابٍ كَقَوْلِهِ وَهَبْت إلَخْ وَبِقَبُولٍ وَقَبْضٍ فِي الْمَجْلِسِ وَفِيمَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ يَمْلِكُهُ بِالْإِذْنِ صَرِيحًا لَا غَيْرُ، كُلُّ ذَلِكَ فِي مَحُوزٍ وَمَشَاعٍ لَا يُقْسَمُ.
أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فَيَنْعَقِدُ بِهِمَا كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَأَمَّا الْقَبْضُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّدَقَةُ وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً» وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمِلْكِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي مَرَضِهِ كُنْتُ نَحَلْتُك جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ وَلَا حُزْتِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَرَثَةِ وَلَوْ كَانَتْ تُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَكَانَ لَهَا ذَلِكَ وَلِأَنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْمُتَبَرِّعِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
[ كِتَابُ الْهِبَةِ]
ِ) قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْعَارِيَّةُ وَهُوَ التَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةُ كَالْمُفْرَدِ وَالْهِبَةُ كَالْمُرَكَّبِ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَمْلِيكُ الْعَيْنِ مَعَ الْمَنْفَعَةِ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ أَمَّا تَفْسِيرُهَا لُغَةً فَهِيَ إعْطَاءُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ قَالَ تَعَالَى {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: ٤٩] أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا؛ لِأَنَّهُ أَعْطَانَا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَفِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهَا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الشَّرِيعَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَشَرْطُهَا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِهَا فَالْقَبْضُ حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ عِنْدَنَا قَبْلَ الْقَبْضِ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا وَكَوْنُهَا غَيْرَ مَشَاعٍ إذَا كَانَتْ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ شَرْطُ الْجَوَازِ أَيْضًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هِبَةُ الْمَشَاعِ جَائِزَةٌ، وَكَذَا التَّصَرُّفُ بِالْمَشَاعِ وَكَوْنُ الْمَحَلِّ الْمُضَافِ إلَيْهِ الْهِبَةُ مَالًا قَابِلًا لِلتَّمْلِيكِ شَرْطُ الْجَوَازِ أَيْضًا حَتَّى إذَا وُهِبَ الْمُدَبَّرُ أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ أَوْ الْخَمْرُ لَا يَصِحُّ. اهـ. (قَوْلُهُ وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَأَمَّا رُكْنُهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ هُوَ مُجَرَّدُ إيجَابِ الْوَاهِبِ، وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا إذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ اهـ (قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا) إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مَقْصُودُ الْوَاهِبِ مِنْ الْهِبَةِ كَصِلَةِ الرَّحِمِ لَكِنْ يُكْرَهُ الرُّجُوعُ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّنَاءَةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَتَصِحُّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ) قَالَ الْكَاكِيُّ أَيْ تَصِحُّ فِي حَقِّ الْوَاهِبِ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَفِي حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ فَصَارَ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ وَلَكِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ اهـ (قَوْلُهُ فَيَنْعَقِدُ بِهِمَا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَأَمَّا الْقَبْضُ فَهُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ حَتَّى يُمْلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا هَذَا فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَمَّا إذَا حَلَفَ، وَقَالَ لَا يَهَبُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ بِلَا قَبُولٍ وَقَبْضٍ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إلَّا بِالْقَبُولِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَلَنَا أَنَّ الْهِبَةَ اسْمٌ لِإِيجَابِ مِلْكٍ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ يَتِمُّ بِالْمَالِكِ إلَّا أَنَّ الْقَبُولَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَا شَرْطَ وُجُودِ الْهِبَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُقِرُّ لَهُ بِشَيْءٍ أَوْ لَا يُوصِي لَهُ بِشَيْءٍ فَأَقَرَّ أَوْ أَوْصَى هُوَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ يَحْنَثُ فَكَذَا هَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِهِمَا كَذَا فِي الْحَصْرِ وَالْمُخْتَلِفِ
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَذَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. اهـ. (قَوْلُهُ نَحَلْتُك جِدَادَ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْجِيمِ مَعَ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْجِدَادُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ صِرَامُ النَّخْلِ وَهُوَ قَطْعُ ثَمَرَتِهَا يُقَالُ جَدَّ الثَّمَرَةَ يَجِدُّهَا جَدًّا وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنِّي كُنْت نَحَلْتُك جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا اهـ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute