فِيهِ كَجَوَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ قَدْ زَالَ فَيَسْقُطُ حُكْمُ الْبَدَلِ، وَهُوَ الْهَدْيُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الْحَجُّ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَحَلَّلْ يَضِيعُ مَالُهُ مَجَّانًا، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ فَيَتَحَلَّلُ كَمَا إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَوَجَّهَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إيفَاءً بِمَا الْتَزَمَ كَمَا الْتَزَمَ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا إحْصَارَ بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ)؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَوَاتُ بَعْدَهُ فَأَمِنَ مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ هَذَا عَلَيْكُمْ بِالْمُعْتَبَرِ فَإِنَّهُ أَمِنَ مِنْ الْفَوَاتِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَفُوتُ لِعَدَمِ تَوَقُّتِهَا بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، قُلْنَا: الْمُعْتَمِرُ يَلْزَمُهُ ضَرَرٌ بِامْتِدَادِ الْإِحْرَامِ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ، فَيَكُونُ لَهُ الْفَسْخُ كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ ضَرَرٌ بِالْمُضِيِّ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: امْتِدَادُ الْإِحْرَامِ مَوْجُودٌ هُنَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَحْلِقَ قُلْنَا: يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْحَلْقِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ، وَإِنْ لَزِمَهُ دَمٌ لِكَوْنِهِ حَلَقَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَبْعَثَ دَمَ الْإِحْصَارِ لِيَتَحَلَّلَ بِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ثُمَّ إنْ دَامَ الْإِحْصَارُ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ دَمٌ وَلِتَرْكِ رَمْيِ الْجِمَارِ دَمٌ وَلِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاخْتَلَفُوا فِي تَحَلُّلِهِ فِي مَكَانِهِ قِيلَ لَا يَتَحَلَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَحَلَّلَ فِي مَكَانِهِ يَقَعُ الْحَلْقُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَمَكَانُهُ الْحَرَمُ وَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى يَحْلِقَ فِي الْحَرَمِ يَقَعُ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ وَتَأْخِيرُهُ عَنْ الزَّمَانِ أَهْوَنُ مِنْ تَأْخِيرِهِ عَنْ الْمَكَانِ فَيُؤَخِّرُهُ حَتَّى يَحْلِقَ فِي الْحَرَمِ وَقِيلَ: يَتَحَلَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْحَالِ رُبَّمَا يَمْتَدُّ الْإِحْصَارُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْحَلْقِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَيَفُوتُهُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ جَمِيعًا فَتَحَمُّلُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ مُنِعَ بِمَكَّةَ عَنْ الرُّكْنَيْنِ فَهُوَ مُحْصَرٌ) يَعْنِي إنْ مُنِعَ بِمَكَّةَ عَنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ صَارَ مُحْصَرًا؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى الْأَفْعَالِ فَكَانَ مُحْصَرًا كَمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْحِلِّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِلَّا لَا) أَيْ إنْ لَمْ يُمْنَعْ عَنْهُمَا بِأَنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا أَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى الْوُقُوفِ فَلِأَنَّهُ أَمِنَ مِنْ الْفَوَاتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِهِ، وَالدَّمُ بَدَلٌ عَنْهُ فِي التَّحَلُّلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْهَدْيِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْمُحْصَرِ يُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ قَالَ: لَا يَكُونُ مُحْصَرًا قُلْت أَلَيْسَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ»، وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ فَقَالَ: إنَّ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ دَارَ الْحَرْبِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ فِيهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: إذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ كَانَ مُحْصَرًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ التَّفْصِيلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ) أَيْ وَلِهَذَا يُقَاتِلُ مَنْ قَصَدَ أَخْذَ مَالِهِ كَمَا يُقَاتِلُ مَنْ قَصَدَ قَتْلَهُ وَلَا يُمْكِنُ تَضْمِينُ الْمَبْعُوثِ عَلَى يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ. اهـ. غَايَةٌ
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَلَا إحْصَارَ بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ) أَيْ فَلَا يَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ. اهـ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ الْفَوَاتُ بَعْدَهُ) قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَهُوَ مُحْرِمٌ عَنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: وَلِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) فَكَانَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ شَيْءٌ لِمَا بَيَّنَّا. اهـ. كَيْ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا اهـ (قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا) وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الدَّمَانِ الْأَوَّلَانِ لَا الْآخَرَانِ اهـ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْلَمْ: أَنَّ الْحَاجَّ إذَا أُحْصِرَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» لَا يُقَالُ: إنَّهُ مَصْدُودٌ عَنْ الْبَيْتِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ كَمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ فِيمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ لَمْ يَتِمَّ حَجُّهُ وَفِيمَا بَعْدَ الْوُقُوفِ تَمَّ فَافْتَرَقَا وَلِأَنَّ فِيمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ إذَا لَمْ يَتَحَلَّلْ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَفِيمَا بَعْدَ الْوُقُوفِ يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ بِالْحَلْقِ فَلَا يَبْقَى مِنْ الْمَحْظُورَاتِ إلَّا النِّسَاءُ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ وَالصَّبْرُ عَلَى النِّسَاءِ لَيْسَ بِمَشَقَّةٍ لَا تُحْمَلُ، وَقَوْلُهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَهُوَ مُحْرِمٌ عَنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْلِقُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ حَيْثُ أُحْصِرَ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ إحْرَامَهُ عَنْ النِّسَاءِ فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِالْحَلْقِ عَنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ إلَّا النِّسَاءَ، وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: وَهُوَ حَرَامٌ كَمَا هُوَ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَذَاكَ يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ الْحَلْقِ إلَى أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ حَرَامٌ كَمَا هُوَ، وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ: رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَظْهَرُ. اهـ.
(قَوْلُهُ: فَلَا حَاجَةَ إلَى الْهَدْيِ) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: كُلُّ مَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ إحْرَامِهِ بِالطَّوَافِ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ لَيْسَ بِمُحْصَرٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (تَقْسِيمٌ) الْمُتَحَلِّلُ قَبْلَ أَعْمَالِ مَا أَحْرَمَ بِهِ إمَّا مُحْصَرٌ أَوْ فَائِتُ الْحَجِّ أَوْ غَيْرُهُمَا، وَتَحَلُّلُ الْأَوَّلِ فِي الْحَالِ بِالدَّمِ، وَالثَّانِي بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَالثَّالِثِ بِلَا شَيْءٍ يَتَقَدَّمُهُ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ شَرْعًا لِحَقِّ الْعَبْدِ كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الْمَمْنُوعَيْنِ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى إذَا أَحْرَمَا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى فَإِنَّ لِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُمَا فِي الْحَالِ ثُمَّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْعَثَ بِهَدْيٍ يُذْبَحُ عَنْهَا فِي الْحَرَمِ، وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا أُعْتِقَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ، وَعَلَيْهِمَا مَعًا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ قَوْلُ الْكُلِّ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ التَّفْصِيلُ) وَهُوَ أَنَّ مَنْ مُنِعَ عَنْهُمَا بِمَكَّةَ كَانَ مُحْصَرًا وَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا. اهـ.
[بَابُ الْفَوَاتِ]
{بَابُ الْفَوَاتِ} قَدَّمَ الْإِحْصَارَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إحْرَامًا بِلَا أَدَاءً، وَفِي الْفَوَاتِ إحْرَامٌ مَعَ الْأَدَاءِ مَعَ تَغْيِيرٍ، وَكَانَ الْإِحْصَارُ كَامِلًا فِي الْعَارِضِيَّةِ فَقَدَّمَ فِي بَيَانِ الْعَوَارِضِ اهـ كَاكِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute