للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُرْبَطُ فِي الْعُنُقِ أَوْ فِي الْيَدِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى زَعْمِهِمْ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَذَكَرَ فِي حُدُودِ الْإِيمَانِ أَنَّهُ كُفْرٌ وَالرَّتِيمَةُ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهَا تُرْبَطُ لِلتَّذَكُّرِ عِنْدَ النِّسْيَانِ، وَلَيْسَتْ كَالتَّمِيمَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِهَا»، وَتَعَلَّقَ بِهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ فَلَا يُكْرَهُ بِخِلَافِ التَّمِيمَةِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ فِيهَا إنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ عَلَى مَا يَجِيءُ بَيَانُهُ، وَتَأْوِيلُ الرُّقَى فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ التَّدَاوِي بِالْحُقْنَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

(فَصْلٌ فِي النَّظَرِ وَالْمَسِّ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لَا يُنْظَرُ إلَى غَيْرِ وَجْهِ الْحُرَّةِ وَكَفَّيْهَا)، وَهَذَا كَلَامٌ فِيهِ خَلَلٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إلَّا إلَى وَجْهِ الْحُرَّةِ، وَكَفَّيْهَا فَيَكُونُ تَحْرِيضًا عَلَى النَّظَرِ إلَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ، وَإِلَى تَرْكِ النَّظَرِ إلَى كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُمَا، وَلَيْسَ هَذَا بِمَقْصُودٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ فِيهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ لَا أَنَّهُ لَا يَكُفُّهُمَا، وَإِنَّمَا جَازَ النَّظَرُ إلَيْهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: ٣١] قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ مَا ظَهَرَ مِنْهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعُهُمَا، وَهُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفُّ كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: ٤٣] مَوَاضِعُهَا؛ وَلِأَنَّ فِي إبْدَائِهِمَا ضَرُورَةً لِحَاجَتِهَا إلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ الرِّجَالِ وَالْإِعْطَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُخَالَطَةِ فِيهَا ضَرُورَةً كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ النَّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ» إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ، وَهُمَا الْعُضْوَانِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَدَمَ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِي تَغْطِيَتِهِ بَعْضَ الْحَرَجِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ذِرَاعِهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَبْدُو مِنْهَا عَادَةً، وَمَا عَدَا مَا اسْتَثْنَى مِنْ الْأَعْضَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْ شَهْوَةٍ صُبَّ فِي عَيْنِهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالُوا، وَلَا بَأْسَ بِالتَّأَمُّلِ فِي جَسَدِهَا، وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ مَا لَمْ يَكُنْ ثَوْبٌ يَبِينُ حَجْمُهَا فِيهِ فَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ تَأَمَّلَ خَلْقَ امْرَأَةٍ وَرَاءَ ثِيَابِهَا حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ حَجْمُ عِظَامِهَا لَمْ يُرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ»؛ وَلِأَنَّهُ مَتَى لَمْ تَصِفْ ثِيَابُهَا مَا تَحْتَهَا مِنْ جَسَدِهَا يَكُونُ نَاظِرًا إلَى ثِيَابِهَا، وَقَامَتِهَا دُونَ أَعْضَائِهَا فَصَارَ كَمَا إذَا نَظَرَ إلَى خَيْمَةٍ فِيهَا امْرَأَةٌ، وَمَتَى كَانَ يَصِفُ يَكُونُ نَاظِرًا إلَى أَعْضَائِهَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَلَا يَنْظُرُ مَنْ اشْتَهَى إلَى وَجْهِهَا إلَّا الْحَاكِمُ وَالشَّاهِدُ، وَيَنْظُرُ الطَّبِيبُ إلَى مَوْضِعِ مَرَضِهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ مَعَ الشَّهْوَةِ لِمَا رَوَيْنَا إلَّا لِلضَّرُورَةِ إذَا تَيَقَّنَ بِالشَّهْوَةِ أَوْ شَكَّ فِيهَا، وَفِي نَظَرِ الْقَاضِي إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهَا أَوْ الشَّاهِدِ إذَا أَرَادَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ، وَفِي نَظَرِ الطَّبِيبِ إلَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ ضَرُورَةٌ فَيُرَخَّصُ لَهُمْ إحْيَاءً لِحُقُوقِ النَّاسِ وَدَفْعًا لِحَاجَتِهِمْ فَصَارَ كَنَظَرِ الْخَتَّانِ وَالْخَافِضَةِ، وَكَذَا يَنْظُرُ إلَى مَوْضِعِ الِاحْتِقَانِ لِلْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ مُدَاوَاةٌ، وَكَذَا لِلْهُزَالِ الْفَاحِشِ؛ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الْمَرَضِ، وَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْقَاضِي أَنْ يَقْصِدَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ وَالْحُكْمَ لَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ تَحَرُّزًا عَنْ الْقَبِيحِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ هَذَا وَقْتَ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا وَقْتَ التَّحَمُّلِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا مَعَ الشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّهُ يُوجَدُ مَنْ لَا يَشْتَهِي فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً إنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ أَخَفُّ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَتَرَ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا سِوَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ ثُمَّ يَنْظُرُ، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَا اسْتَطَاعَ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

رِوَايَةُ الثِّقَاتِ وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَمْتَ بِتَاءِ الْخِطَابِ لِمُذَكَّرٍ عَلَى حَذْفِ إحْدَى الْمِيمَيْنِ، وَذَلِكَ ضَعِيفٌ وَجَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَحْسِنْ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسٌ. اهـ أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

(قَوْلُهُ: وَالتَّمَائِمُ) التَّمَائِمُ جَمْعُ تَمِيمَةٍ، وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتْ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى أَوْلَادِهِمْ يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ فِي زَعْمِهِمْ فَأَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ» كَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَمَامُ الدَّوَاءِ وَالشِّفَاءِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا شِرْكًا؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهَا دَفْعَ الْمَقَادِيرِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَيْهِمْ وَطَلَبُوا دَفْعَ الْأَذَى مِنْ غَيْرِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ دَافِعُهُ. اهـ. ابْنُ الْأَثِيرِ.

[فَصْلٌ فِي النَّظَرِ وَالْمَسِّ]

(فَصْلٌ فِي النَّظَرِ وَالْمَسِّ) قَوْلُهُ: (لَا أَنَّهُ لَا يَكُفُّهُمَا) قُلْت مَعْنَى كَلَامِهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحُرَّةِ إلَى غَيْرِ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ جَوَازِ النَّظَرِ إلَى غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيضِ عَلَى النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَلَا يَدُلُّ التَّرْكِيبُ عَلَيْهِ فَافْهَمْ. اهـ. عَيْنِيٌّ (قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِهِ مَوَاضِعُهَا) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ، وَذَكَرَ الزِّينَةَ، وَأَرَادَ مَوْضِعَهَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي السَّتْرِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَهَذَا يُفِيدُ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ، وَعَنْ أَصْحَابِنَا رِوَايَتَانِ فِي الْقَدَمِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهَا، وَلَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا. اهـ. (قَوْلُهُ: لَمْ يُرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) ضَبَطَهُ الشَّارِحُ بِالْقَلَمِ بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ، وَفِيهِ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً لَمْ يُرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ أَيْ لَمْ يَشُمَّ رِيحَهَا يُقَالُ رَاحَ يُرِيحُ وَرَاحَ يَرَاحُ، وَأَرَاحَ يُرِيحُ إذَا وَجَدَ رَائِحَةَ الشَّيْءِ وَالثَّلَاثَةُ قَدْ رُوِيَ بِهَا الْحَدِيثُ. اهـ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الْمَرَضِ) أَيْ؛ لِأَنَّ آخِرَهُ الدَّقُّ وَالسُّلُّ. اهـ. (قَوْلُهُ: تَحَرُّزًا عَنْ الْقَبِيحِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ: وَأَمَّا الْإِشْهَادُ وَالْقَضَاءُ فَلِأَنَّ الْإِشْهَادَ لَا يَصِحُّ مَعَ جَهَالَةِ الْوَجْهِ وَالْقَضَاءُ كَذَلِكَ فَكَانَ فِيهِمَا الضِّرْوَةُ وَلِلضَّرُورَةِ الْمَاسَةِ أَثَرُ إبَاحَةِ الْمُحَرَّمِ كَضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ يُبَاحُ بِهَا تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ بِخِلَافِ صُورَةِ الْمُعَامَلَةِ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ مَعَ الْمَجْهُولَةِ الْوَجْهِ جَائِزَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرُورَةٌ مَاسَةٌ، وَفِيهِ حَرَجٌ فَأَبَحْنَا النَّظَرَ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ لِلْمُعَامَلَةِ، وَلَمْ يُبَحْ حَالَ الشَّهْوَةِ، وَأَمَّا حَالُ إرَادَةِ النِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ فَلِأَنَّ النَّظَرَ بِشَهْوَةٍ مَا حُرِّمَ لَعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الزِّنَا وَالنَّظَرُ عِنْدَ إرَادَةِ النِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ يَصِيرُ سَبَبًا لِلْوَطْءِ الْحَلَالِ لَا لِلزِّنَا. اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>