للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا، وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ حِينَ خَطَبَ امْرَأَةً «اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا؛ وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ السُّنَّةِ لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمَسَّ وَجْهَهَا، وَلَا كَفَّيْهَا، وَإِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ لِوُجُودِ الْمُحَرِّمِ وَانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى.

وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ عَلَى كَفِّهِ جَمْرٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وَهَذَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُشْتَهَى، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى فَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهَا، وَمَسِّ يَدِهَا لِانْعِدَامِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِيهِمْ، وَكَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَأْجَرَ عَجُوزًا لِتُمَرِّضَهُ، وَكَانَتْ تَكْبِسُ رِجْلَيْهِ، وَتَفْلِي رَأْسَهُ، وَكَذَا إذَا كَانَ شَيْخًا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ مُصَافَحَتُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْفِتْنَةِ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْمَسِّ أَنْ يَكُونَا كَبِيرَيْنِ مَأْمُونَيْنِ فِي رِوَايَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يُكْتَفَى بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا كَبِيرًا مَأْمُونًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا كَانَ لَا يُشْتَهَى لَا يَكُونُ الْمَسُّ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ كَالصَّغِيرَةِ. وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّ الشَّابَّ إذَا كَانَ لَا يَشْتَهِي بِمَسِّ الْعَجُوزِ فَالْعَجُوزُ تَشْتَهِي بِمَسِّ الشَّابِّ؛ لِأَنَّهَا عَلِمَتْ بِمَلَاذِ الْجِمَاعِ فَيُؤَدِّي إلَى الِاشْتِهَاءِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ حَرَامٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى الِاشْتِهَاءِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ كَمَا لَا يَشْتَهِي بِمَسِّ الصَّغِيرِ لَا يَشْتَهِي الصَّغِيرُ أَيْضًا بِمَسِّهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ صَغِيرٌ أَوْ صَغِيرَةٌ يُغَسِّلُهُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ إلَّا الْعَوْرَةَ)، وَهِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَالسُّرَّةُ لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ وَالرُّكْبَةُ عَوْرَةٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُبَيِّنْ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَوْرَةَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَاكْتَفَى بِذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا الدَّلِيلَ هُنَاكَ ثُمَّ حُكْمُ الْعَوْرَةِ فِي الرُّكْبَةِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْفَخِذِ، وَفِي الْفَخِذِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي السَّوْأَةِ حَتَّى يُنْكِرَ عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الرُّكْبَةِ بِرِفْقٍ، وَفِي الْفَخِذِ بِعُنْفٍ، وَفِي السَّوْأَةِ بِضَرْبٍ إنْ لَجَّ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَالْمَرْأَةُ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلُ كَالرَّجُلِ لِلرَّجُلِ)، وَمَعْنَاهُ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ لِلرَّجُلِ أَيْ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ حَتَّى يَجُوزَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُمَا إلَى مَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ إذَا أُمِنَتْ الشَّهْوَةُ وَالْفِتْنَةُ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ فَكَانَ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهَا شَهْوَةٌ أَوْ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهَا أَنَّهَا تَشْتَهِي أَوْ شَكَّتْ فِي ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَغُضَّ بَصَرَهَا، وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ النَّاظِرَ إلَى مَا يَجُوزُ لَهُ مِنْهَا كَالْوَجْهِ وَالْكَفِّ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ حَتْمًا مَعَ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ نَظَرِهَا وَنَظَرِهِ أَنَّ الشَّهْوَةَ عَلَيْهِنَّ غَالِبَةٌ، وَهِيَ كَالْمُتَحَقِّقِ حُكْمًا فَإِذَا اشْتَهَى الرَّجُلُ كَانَتْ الشَّهْوَةُ مَوْجُودَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِذَا اشْتَهَتْ هِيَ لَمْ يُوجَدْ إلَّا مِنْهَا فَكَانَتْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ وَالْمَوْجُودُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَقْوَى فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى مَا جَازَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ لِلْمُجَانَسَةِ وَانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ غَالِبًا كَمَا فِي نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ، وَكَذَا الضَّرُورَةُ قَدْ تَحَقَّقَتْ فِيمَا بَيْنَهُنَّ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى مَحَارِمِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ نَظَرِهَا إلَى الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ يَحْتَاجُونَ إلَى زِيَادَةِ الِانْكِشَافِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى يَجُوزُ، وَهِيَ الْأَصَحُّ، وَمَا جَازَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ جَازَ مَسُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَلَا يُخَافُ مِنْهُ الْفِتْنَةُ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى فَرْجِ أَمَتِهِ وَزَوْجَتِهِ) مَعْنَاهُ عَنْ شَهْوَةٍ وَغَيْرِ شَهْوَةٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ غُضَّ بَصَرَك إلَّا عَنْ زَوْجِك، وَأَمَتِك»، وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ»، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ مُبَاحًا لَمَا تَجَرَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهِ؛ وَلِأَنَّ مَا فَوْقَ النَّظَرِ، وَهُوَ الْمَسُّ وَالْغَشَيَانُ مُبَاحٌ فَالنَّظَرُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ مَا اسْتَطَاعَ، وَلَا يَتَجَرَّدَانِ تَجَرُّدَ الْعِيرِ»؛ وَلِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْعَوْرَةِ يُورِثُ النِّسْيَانَ قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ أَكْثَرَ النَّظَرَ إلَى سَوْأَتِهِ عُوقِبَ بِالنِّسْيَانِ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَقُولُ الْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ وَقْتَ الْوِقَاعِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

( قَوْلُهُ: لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ) أَيْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ مِنْهَا. اهـ. (قَوْلُهُ: لِتُمَرِّضَهُ) يُقَالُ مَرَّضَهُ أَيْ قَامَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: وَتَفْلِي رَأْسَهُ) مِنْ بَابِ رَمَى. اهـ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ فَلَيْت رَأْسِي فَلْيًا مِنْ بَابِ رَمَى نَقَّيْته مِنْ الْقَمْلِ. اهـ. .

(قَوْلُهُ: بِرِفْقٍ)، وَلَا يُنَازِعُهُ إنْ لَجَّ. اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: وَفِي الْفَخِذِ بِعُنْفٍ)، وَلَا يَضْرِبُهُ إنْ لَجَّ. اهـ أَتْقَانِيٌّ.

(قَوْلُهُ: وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ نَظَرِهِ وَنَظَرِهَا) حَيْثُ كَانَ نَظَرُ الرَّجُلِ حَرَامًا وَغَضُّ بَصَرِهَا مُسْتَحَبًّا. اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ) أَيْ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ الْحَمَّامِ، وَإِلَى أَنْ تَعْمَلَ فِي بَيْتِهَا مُتَجَرِّدَةً وَالنِّسَاءُ تَدْخُلُ عَلَيْهَا فَلَوْ لَمْ نُجَوِّزْ النَّظَرَ أَدَّى ذَلِكَ إلَى تَضْيِيقِ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَشْتَهِي الْمَرْأَةَ غَالِبًا كَمَا لَا يَشْتَهِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَإِذَا جَازَ النَّظَرُ إلَى الرَّجُلِ كَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ النَّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ لِانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ غَالِبًا وَوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ كَمَا فِي نَظَرِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ. اهـ أَتْقَانِيٌّ. (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ يَحْتَاجُونَ إلَخْ)؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَعْمَلُ مُتَجَرِّدًا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَغْلِبُ ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ نُجَوِّزْ لَهَا النَّظَرَ إلَيْهِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ. اهـ أَتْقَانِيٌّ.

(قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ) أَيْ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَرَ مِنِّي، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ»، وَهَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ لِمَا قُلْنَا. اهـ غَايَةٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>