فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ مَالٌ وَعُرِفَتْ قُدْرَتُهُ بِذَلِكَ وَالْمُنْكِرُ يَدَّعِي خِلَافَ ذَلِكَ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَكُلُّ دَيْنٍ لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مَالًا كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ غِنَاهُ فَكَانَ مُتَمَسَّكًا بِالْأَصْلِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَا كَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِي نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوِهِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُلُّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بِمُعَاقَدَتِهِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُدَّعِي إذْ لَا يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ادَّعَتْ أَنَّ الزَّوْجَ مُوسِرٌ وَطَلَبَتْ نَفَقَةَ الْمُوسِرَاتِ وَادَّعَى هُوَ الْفَقْرَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ تَخْرُجَانِ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا، وَلَا تُخَالِفَانِ شَيْئًا مِنْهَا فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِمَا قَوْلَ الْمُنْكِرِ بِاتِّفَاقِ الْأَقَاوِيلِ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَلْخِيّ يَحْكُمُ الزِّيُّ فَإِذَا كَانَتْ هَيْئَتُهُ هَيْئَةَ الْفُقَرَاءِ يَعْنِي الْمَدِينَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَتْ هَيْئَتُهُ هَيْئَةَ الْأَغْنِيَاءِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي إلَّا إذَا كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأَشْرَافِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِي اللُّبْسِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى غِنَاهُمْ وَقَوْلُهُ يَحْبِسُهُ بِمَا رَأَى أَيْ يَحْبِسُهُ قَدْرَ مَا يَرَى يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ أَثْبَتَ الْمَالَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِإِقْرَارِهِ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِحَبْسِهِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً وَإِنَّمَا هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي يَحْبِسُهُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَأَظْهَرَهُ وَلَمْ يَصْبِر عَلَى مُقَاسَاتِهِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّخْصِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمَالِ، فَلَا مَعْنَى لِتَقْدِيرِهِ وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ التَّقْدِيرِ بِشَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ اتِّفَاقِيٌّ وَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ حَتْمًا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ) أَيْ الْقَاضِي يَسْأَلُ عَنْ الْمَحْبُوسِ بَعْدَ مَا حَبَسَهُ قَدْرَ مَا يَرَاهُ فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إعْسَارِهِ أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَبْسِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى لَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَالْعَدْلُ الْوَاحِدُ يَكْفِي فِي هَذَا وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ وَكَيْفِيَّتُهُ أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ إنَّ حَالَ الْمُعْسِرِينَ فِي نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ وَحَالُهُ ضَيِّقَةٌ وَقَدْ اخْتَبَرْنَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا السُّؤَالُ مِنْ الْقَاضِي عَنْ حَالِ الْمَدْيُونِ بَعْدَ مَا حَبَسَهُ احْتِيَاطٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْإِعْسَارِ شَهَادَةٌ بِالنَّفْيِ وَالشَّهَادَةُ بِالنَّفْيِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَسْأَلَ وَيَعْمَلَ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنْ لَوْ سَأَلَ مَعَ هَذَا كَانَ أَحْوَطَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خَلَّاهُ) لِأَنَّ عُسْرَتَهُ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ وَاسْتَحَقَّ النَّظْرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: ٢٨٠] فَحَبْسُهُ بَعْدَهُ يَكُونُ ظُلْمًا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ) أَيْ لَا يَمْنَعُهُمْ عَنْ مُلَازَمَتِهِ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ يَمْنَعُهُمْ لِأَنَّهُ مُنْتَظَرٌ بِإِنْظَارِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى الْمَيْسَرَةِ، فَلَوْ كَانَ مُنْتَظَرًا بِإِنْظَارِهِمْ بِأَنْ ضَرَبُوا لَهُ الْأَجَلَ لَا يَكُونُ لَهُمْ حَقُّ الْمُلَازَمَةِ قَبْلَ الْأَجَلِ فَكَذَا بِإِنْظَارِهِ تَعَالَى بَلْ أَوْلَى، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ مُنْتَظَرٌ إلَى زَمَانِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيفَاءِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيُلَازِمُونَهُ كَيْ لَا يُخْفِيَهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكْسِبُ فَوْقَ حَاجَتِهِ الدَّارَّةَ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ فَضْلَ كَسْبِهِ بِخِلَافِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْغَرِيمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ لِأَنَّهُ مُؤَخَّرٌ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ نَفْسُ الدَّيْنِ حَالٌّ وَذِمَّتُهُ مَشْغُولَةٌ، وَلَكِنْ لَا يُطَالَبَ لِعُسْرَتِهِ، وَزَوَالُ الْعُسْرَةِ مُتَوَقَّعٌ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ فَيُلَازِمُونَهُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَرَدُّ الْبَيِّنَةِ عَلَى إفْلَاسِهِ قَبْلَ حَبْسِهِ) لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ عَلَى النَّفْيِ فَلَمْ تُقْبَلْ مَا لَمْ تَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ وَهُوَ الْحَبْسُ وَبَعْدَهُ تُقْبَلُ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا تُقْبَلُ وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى وَكَافَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى الْأَوَّلِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَبَيِّنَةُ الْيَسَارِ أَحَقُّ) يَعْنِي إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْيَسَارِ وَأَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْإِعْسَارِ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْيَسَارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْيَسَارَ عَارِضٌ وَالْبَيِّنَةُ لِلْإِثْبَاتِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَأَبَّدَ حَبْسَ الْمُوسِرِ) لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الظُّلْمِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ الْحَقِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ خَلَّدَهُ فِي الْحَبْسِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِدَيْنٍ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ، ثُمَّ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا خَلَّى سَبِيلَهُ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ جَاحِدًا فَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي وَظَهَرَ لِلْقَاضِي جُحُودُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَمُمَاطَلَتِهِ أَوْ ظَهَرَ لَهُ مُمَاطَلَتُهُ بَعْدَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute