عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَنَى السِّجْنَ وَكَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ بَنَاهُ فِي الْإِسْلَامِ وَسَمَّى السِّجْنَ نَافِعًا وَلَمْ يَكُنْ حَصِينًا فَانْفَلَتَ النَّاسُ مِنْهُ وَبَنَى سِجْنًا آخَرَ وَسَمَّاهُ مُخَيَّسًا وَقَالَ فِيهِ شِعْرًا
أَلَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيَّسَا ... بَنَيْت بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسَا
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي أَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ فِي الثَّمَنِ وَالْقَرْضِ وَالْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ وَمَا الْتَزَمَهُ بِالْكَفَالَةِ) مَعْنَاهُ يَحْبِسُهُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي حَبْسَهُ بَعْدَ إبَائِهِ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِبَاءِ ظَهَرَ مَطْلُهُ وَبِالْمَالِ الَّذِي حَصَلَ فِي يَدِهِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ بِاخْتِيَارِهِ ظَهَرَتْ قُدْرَتُهُ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْمَالِ لَهُ وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ بِالتَّقَلُّبِ فِيهِ، وَكَذَا لَا يَلْتَزِمُ الْإِنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ مَالًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ عَادَةً فَإِذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ ظُلْمٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ» اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، ثُمَّ شَرَطَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِبَاءَ بَعْدَ أَمْرِهِ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْهِدَايَةِ فَقَالَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يَحْبِسُهُ كَمَا ثَبَتَ لِظُهُورِ الْمَطْلِ بِإِنْكَارِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ مُمَاطِلًا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ؛ فَلَعَلَّهُ طَمِعَ فِي الْإِمْهَالِ فَلَمْ يَسْتَصْحِبْ الْمَالَ فَإِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ حَبَسَهُ لِظُهُورِ مَطْلِهِ، وَمِثْلُهُ حُكِيَ عَنْ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَالْمَحْكِيُّ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ عَكْسُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يَعْتَذِرُ فَيَقُولُ مَا عَلِمْتُ أَنَّ لَهُ عَلَيَّ دَيْنًا إلَّا السَّاعَةَ فَإِذَا عَلِمْتُ قَضَيْت، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ وَالْأَحْسَنُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِيفَاءِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُوَفِّيَ فَلَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ حَالُهُ بِالْأَمْرِ وَالْمُطَالَبَةِ بِذَلِكَ وَالصَّوَابُ لَا يَحْبِسُهُ فِيمَا إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَلَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ لَهُ مَالًا أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ لِظُهُورِ مَطْلِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْمَالَ وَالْمُدَّعِي يَقُولُ لَهُ مَالٌ فَالْقَاضِي يَقُولُ لِلْمُدَّعِي أَلَكَ بَيِّنَةٌ أَنَّ لَهُ مَالًا؟
فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ، فَإِنْ أَبَى حَبَسَهُ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْبَيِّنَةِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَنَّ لَهُ مَالًا وَهُوَ يُنْكِرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعِي فِيمَا ذُكِرَ فِي الْمُخْتَصَرِ مِنْ الدُّيُونِ وَهُوَ كُلُّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ أَوْ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ فَيَحْبِسُهُ بِهِ لِمَا ذَكَرْنَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لَا فِي غَيْرِهِ إنْ ادَّعَى الْفَقْرَ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ غَرِيمُهُ غِنَاهُ فَيَحْبِسُهُ بِمَا رَأَى) أَيْ لَا يَحْبِسُهُ فِي غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدُّيُونِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَدُيُونِ النَّفَقَاتِ وَضَمَانِ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِبَدَلِ مَالٍ، وَلَا مُلْتَزَمٍ بِعَقْدٍ إنْ ادَّعَى الْفَقْرَ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي الْمَالَ بِالْبَيِّنَةِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ بِقَدْرِ مَا يَرَى؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ إذْ الْأَصْلُ أَنَّ الْآدَمِيَّ يُولَدُ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَالْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَكَانَ الْقَوْلُ لِصَاحِبِهِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يُكَذِّبْهُ الظَّاهِرُ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ لَهُ مَالًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِيهِ حَصَلَ فِي يَدِهِ، وَلَا يَلْتَزِمُ الْإِنْسَانُ عَادَةً مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَظَهَرَ غِنَاهُ بِذَلِكَ وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ الَّذِي يُحْبَسُ فِيهِ مَا تُعُورِفَ تَعْجِيلُهُ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ لَا يُحْبَسُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّسَامُحُ بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَإِنْ كَانَ حَالًّا، فَلَا يَدُلُّ دُخُولُهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَاخْتَارَ الْخَصَّافُ أَنَّ الْقَوْلَ لِلْمَدِينِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعُسْرَةُ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي عَارِضًا، فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَاخْتَارَ أَبُو عُبَد اللَّهِ الثَّلْجِيُّ أَنَّ كُلَّ دَيْنٍ أَصْلُهُ مَالٌ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ مُخَيَّسًا) ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ فِي بَابِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَعَ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ اهـ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَخَيَّسَهُ تَخْيِيسًا أَيْ ذَلَّلَهُ وَمِنْهُ الْمُخَيَّسُ، وَهُوَ اسْمُ سِجْنٍ كَانَ بِالْعِرَاقِ أَيْ مَوْضِعُ التَّذْلِيلِ وَكُلُّ سِجْنٍ مُخَيِّسٌ وَمُخَيَّسٌ أَيْضًا اهـ (قَوْلُهُ وَقَالَ فِيهِ شِعْرًا) أَيْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اهـ (قَوْلُهُ فِي الشِّعْرِ أَلَا تَرَانِي إلَخْ) أَنْشَدَهُ فِي الصِّحَاحِ
أَمَا تَرَانِي فِي مَوْضِعَيْنِ فِي (خيس) وَ (كيس)
وَلَمْ يَعْزُهُ لِأَحَدٍ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي الشِّعْرِ أَيْضًا مُكَيَّسًا) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ فِي الْكَافِ مَعَ الْيَاءِ الْكَيْسُ الظُّرْفُ وَحُسْنُ التَّأَتِّي فِي الْأُمُورِ وَرَجُلٌ كَيِّسٌ مِنْ قَوْمٍ أَكْيَاسٍ وَالْمُكَيَّسُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْكِيَاسَةِ اهـ وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ وَالرَّجُلُ كَيِّسٌ مُكَيَّسٌ أَيْ ظَرِيفٌ (قَوْلُهُ فِي الشِّعْرِ أَيْضًا
بَنَيْت بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسًا)
بَعْدَ هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ فِي خَطِّ الشَّارِحِ، وَهُوَ
بَابًا حَصِينًا وَأَمِينًا كَيِّسًا
اهـ قَوْلُهُ وَأَمِينًا أَيْ وَنَصَبْت أَمِينًا يَعْنِي السَّجَّانَ اهـ.
(قَوْلُهُ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ،) أَيْ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِالدَّيْنِ وَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَحْوَجَهُ إلَى شَكْوَاهُ. اهـ. (قَوْلُهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ) أَيْ يَسْأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَلَكَ مَالٌ؟ اهـ.
(قَوْلُهُ وَدُيُونِ النَّفَقَاتِ) أَيْ لَا يُحْبَسُ فِي دُيُونِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ إنْ ادَّعَى الْفَقْرَ وَالْمُرَادُ النَّفَقَةُ الْمَقْضِيُّ بِهَا أَوْ الَّتِي تَرَاضَيَا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِذَلِكَ وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنْ ادَّعَى الْفَقْرَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَدَّعِ الْفَقْرَ يُحْبَسُ كَمَا لَوْ أَثْبَتَ غَرِيمُهُ غِنَاهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَتْنِ أَمَّا النَّفَقَةُ الْمَاضِيَةُ مِنْ غَيْرِ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ فَلَا حَبْسَ فِيهَا مُطْلَقًا نَعَمْ يُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ الْحَاضِرَةِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا كَمَا سَيَجِيءُ مَتْنًا وَشَرْحًا فَإِنْ قُلْتُ: قَوْلُ الشَّارِحِ فِيمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَإِنْ لَمْ تَسْقُطْ بِأَنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِهَا أَوْ اصْطَلَحَ الزَّوْجَانِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ مَالٍ وَلَا لَزِمَتْهُ بِعَقْدٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ فِي النَّفَقَةِ الَّتِي قُضِيَ بِهَا أَوْ تَرَاضَيَا عَلَيْهَا قُلْتُ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا ادَّعَى الْفَقْرَ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ هُنَا إذْ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ وَفُهِمَ عَلَى إطْلَاقِهِ مِنْ عَدَمِ الْحَبْسِ لَنَاقَضَ قَوْلَهُ لَا فِي غَيْرِهِ إنْ ادَّعَى الْفَقْرَ، وَقَدْ قَالَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَلَمْ يُعْطِهَا وَقَدَّمَتْهُ إلَى الْقَاضِي مِرَارًا وَلَمْ يَنْجَعْ نُصْحُ الْقَاضِي فِيهِ؛ حَبَسَهُ اهـ فَهَذَا كَمَا تَرَى صَرِيحٌ فِي الْحَبْسِ فِي الْمَقْضِيِّ بِهَا لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَدَّعِ الْفَقْرَ أَوْ ادَّعَاهُ وَعَلِمَ الْقَاضِي يَسَارَهُ وَقَالَ الْإِمَامُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْكِفَايَةِ امْتَنَعَ عَنْ النَّفَقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ لَمْ يَحْبِسْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ يُخْبِرُهُ بِالْحَبْسِ إنْ لَمْ يَدْفَعْ اهـ كَذَا بِخَطِّ الشَّيْخِ الشِّلْبِيِّ (قَوْلُهُ الثَّلْجِيُّ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ صَاحِبُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ. اهـ. .