للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُخْتَصَرِ فَقَالَ (الْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ) يَعْنِي بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ) أَيْ الْوَصِيَّةُ مُسْتَحَبَّةٌ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ كَالزَّكَاةِ أَوْ الصِّيَامِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الصَّلَاةِ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا فَهِيَ وَاجِبَةٌ وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى حَالِ زَوَالِ الْمِلْكِ، وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى حَالِ قِيَامِهِ بِأَنْ قَالَ مَلَّكْتُك غَدًا كَانَ بَاطِلًا فَهَذَا أَوْلَى إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ أَجَازَهَا

لِحَاجَةِ

النَّاسِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَغْرُورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ فِي عَمَلِهِ فَإِذَا عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ وَخَافَ الْهَلَاكَ يَحْتَاجُ إلَى تَلَافِي مَا فَاتَهُ مِنْ التَّقْصِيرِ بِمَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ تَحَقَّقَ مَا كَانَ يَخَافُهُ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ الْمَآلِيّ، وَلَوْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ وَأَحْوَجَهُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ صَرَفَهُ إلَى حَاجَتِهِ الْحَالِيِّ فَشَرَعَهَا الشَّارِعُ تَمْكِينًا مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَقَضَاءً لِحَاجَتِهِ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَمِثْلُهُ الْإِجَارَةُ لَا تَجُوزُ قِيَاسًا لِمَا فِيهَا مِنْ إضَافَةِ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ إلَى مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ وَأَجَازَهَا الشَّارِعُ

لِلضَّرُورَةِ

وَقَدْ يَبْقَى الْمِلْكُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ كَمَا بَقِيَ فِي قَدْرِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ وَقَدْ نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: ١٢] وَالسُّنَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ لِيَجْعَلَهَا لَكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ.

ثُمَّ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِالثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَارِثِ وَلَا تَجُوزُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا قُلْت فَالشَّطْرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا قُلْت فَالثُّلُثَ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ إنَّكَ إنْ تَذَرْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»، وَلِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الزَّوَالِ إلَيْهِمْ وَهُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الْمَالِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُظْهِرْهُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ لِيَتَدَارَكَ تَقْصِيرَهُ وَأَظْهَرُهُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ تَحَرُّزًا عَمَّا يَتَّفِقُ لَهُمْ مِنْ التَّأَذِّي بِالْإِيثَارِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» وَفَسَّرُوهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَبِالْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا تَصِحُّ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلَا لِقَاتِلِهِ وَوَارِثِهِ إنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا بَيَّنَّا وَأَمَّا الثَّانِي فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ» وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْقَاتِلَ مُبَاشَرَةً عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً بِخِلَافِ التَّسْبِيبِ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيبَ لَيْسَ بِقَتْلٍ حَقِيقَةً فَلَا يَتَنَاوَلُهُ، وَلِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ اللَّهُ فَيُحْرَمُ الْوَصِيَّةَ كَالْمِيرَاثِ سَوَاءٌ أَوْصَى لَهُ قَبْلَ الْقَتْلِ ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ بَعْدَ الْجُرْحِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَاهُ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَلِأَنَّ الْبَعْضَ يَتَأَذَّى بِإِيثَارِ الْبَعْضِ فَفِي تَجْوِيزِهِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ.

وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ وَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَقْتَ الْمَوْتِ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتَ التَّمْلِيكِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَهُوَ وَارِثٌ ثُمَّ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ وَعَكْسُهُ لَوْ أَوْصَى لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ مِنْ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ فِي هَذَا نَظِيرُ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ حُكْمًا حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ عَلَى عَكْسِهِ فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ عِنْدَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْحَالِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ لِشَخْصٍ وَهُوَ لَيْسَ بِوَارِثٍ لَهُ جَازَ الْإِقْرَارُ لَهُ.

وَإِنْ صَارَ وَارِثًا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ لِابْنِهِ وَهُوَ عَبْدٌ ثُمَّ أُعْتِقَ قَبْلَ مَوْتِ الْأَبِ جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ إرْثَهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يَبْطُلُ إقْرَارُهُ لَهَا وَأَمَّا إذَا وَرِثَ بِسَبَبٍ قَائِمٍ عِنْدَ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَقَرَّ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ وَلَا يَرِثُنِي) أَيْ بِالْفَرْضِ وَإِلَّا فَلَهُ عَصَبَةٌ كَثِيرَةٌ. اهـ. (قَوْلُهُ قُلْت فَالشَّطْرَ) الشَّطْرُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ أَفَأُوصِي بِالشَّطْرِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مَضْبُوطٌ بِالْجَرِّ وَلَا إشْكَالَ فِيهِ إذْ هُوَ الظَّاهِرُ. اهـ. (قَوْلُهُ قَالَ الثُّلُثُ) قَالَ النَّوَوِيُّ يَجُوزُ رَفْعُ الثُّلُثِ وَنَصْبُهُ فَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ يَكْفِيك الثُّلُثُ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَوْ عَكْسُهُ وَالنَّصْبُ عَلَى الْإِغْرَاءِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْطِ الثُّلُثَ. اهـ. (قَوْلُهُ إنْ تَذَرْ) مُبْتَدَأٌ وَخَيْرٌ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إنَّ مِنْ إنَّكَ فَالتَّقْدِيرُ تَرْكُك أَوْلَادَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ اهـ.

(قَوْلُهُ بِخِلَافِ التَّسْبِيبِ) أَيْ كَمَا فِي حَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) مُقْتَضَى الْحَدِيثِ وَعِبَارَتُهُ فِي الْمَتْنِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ مِنْ الْعِلَّةِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَصِحُّ لِلْوَارِثِ بِالثُّلُثِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَقَوْلُ الشَّارِحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي آخِرِ الْمَقَالَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ إلَخْ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ مِنْ عَدَمِ الصِّحَّةِ بِالثُّلُثِ وَبِغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي فَتَاوَاهُ مَا نَصُّهُ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَنْ تُجِيزَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ «سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قَالَ بِنِصْفِهِ قَالَ لَا قَالَ بِثُلُثِهِ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» أَمَّا الْجَوَازُ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلِأَنَّ الْمَنْعَ كَائِنٌ لِحَقِّهِمْ وَقَدْ أَسْقَطُوا حَقَّهُمْ فَيَزُولُ الْمَنْعُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِوَارِثِهِ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجِيزَ أَصْحَابُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَأَمَّا الْجَوَازُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ لِمَا قُلْنَا اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>