فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَذَا الْمُضَافُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَمَاتِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْوَصِيَّةُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بَاطِلَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: ٩] الْآيَةَ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ، وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ لَهُمْ وَإِنْ فَعَلَ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَالْمُسْتَأْمِنُ كَالذِّمِّيِّ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ الْمَالَ حَالَ حَيَاتِهِ فَكَذَا مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ مَمَاتِهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَقَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَبَطَلَ رَدُّهَا وَقَبُولُهَا فِي حَيَاتِهِ) أَيْ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي؛ لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ حُكْمِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ وَلَا رَدُّهُ قَبْلَهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرَانِ قَبْلَ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ غَدًا فَإِنَّ رَدَّهَا وَقَبُولَهَا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَدِ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا رَدَّ الْوَصِيَّةَ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي لَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ إيجَابَهُ كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَقَدْ رَدَّهُ فَبَطَلَ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَنَدَبَ النَّقْصُ مِنْ الثُّلُثِ) أَيْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوصِيَ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ؛ لِأَنَّ فِي التَّنْقِيصِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِ مَالِهِ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَكْمَلَ الثُّلُثَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ عَلَى التَّمَامِ فَتَفُوتُهُ الصِّلَةُ عَلَى الْقَرِيبِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِقَوْلِهِمَا لَأَنْ يُوصَى بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصَى بِالرُّبُعِ وَلَأَنْ يُوصَى بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصَى بِالثُّلُثِ وَتَرْكُ الْوَصِيَّةِ أَفْضَلُ إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ لَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ»، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنْ تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ» الْحَدِيثَ، وَلِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ الْفَقْرُ وَالْقَرَابَةُ وَالْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِمَالِهِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَالْهِبَةِ مِنْ الْقَرِيبِ وَقِيلَ الْأُولَى أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَبْتَغِي بِهَا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَبِالْهِبَةِ رِضَاهُمْ وَقِيلَ يُخَيَّرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَضِيلَةٍ وَهِيَ الصَّدَقَةُ أَوْ الصِّلَةُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا أَيَّهُمَا شَاءَ أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَلَكَ بِقَبُولِهِ) أَيْ الْمُوصَى لَهُ يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَمْلِكُ بِدُونِ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهَا خِلَافَةٌ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْقَبُولِ كَالْمِيرَاثِ وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ إثْبَاتُ مِلْكٍ جَدِيدٍ وَلِهَذَا لَا يَرُدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ بِهِ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهَا خِلَافَةٌ حَتَّى تَثْبُتَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فَتَثْبُتُ جَبْرًا مِنْ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِدُونِ قَبُولِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ بِأَنْ أَوْصَى لَهُ بِعَبْدٍ أَعْمَى أَوْ دِنَانٍ مُكَسَّرَةٍ أَوْ بِزِبْلٍ مُجْتَمَعٍ فِي دَارِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْعَبْدِ وَنَقْلُ الْمُكَسَّرِ وَالزِّبْلِ تَفْرِيغًا لِمِلْكِ الْغَيْرِ عَنْ مِلْكِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (إلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَبْلَ قَبُولِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِدُونِ الْقَبُولِ)، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ فَصَارَ كَمَوْتِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبُولِ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ جَانِبِ الْمُوصِي قَدْ تَمَّتْ بِمَوْتِهِ تَمَامًا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ فَإِذَا مَاتَ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِعِ ثُمَّ مَاتَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ) أَمَّا وَصِيَّةُ الْحَرْبِيِّ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِمَالِهِ كُلِّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ فِي بَابِ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْأَسْرَارِ إذَا أَوْصَى الْمُسْلِمُ لِلْحَرْبِيِّ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدَّارِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ} [الممتحنة: ٩] الْآيَةَ، وَلِأَنَّ فِي دَفْعِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِمْ تَقْوِيَةً لَهُمْ عَلَى حَرْبِنَا فِي تَكْثِيرِ مَا لَهُمْ إضْرَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِالسِّلَاحِ وَبِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لَا تَجُوزُ لَهُ الْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ اهـ أَتْقَانِيٌّ وَقَالَ الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِهِ وَلَا تَصِحُّ لِلْحَرْبِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلثَّلَاثَةِ اهـ.
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَقَبُولُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ إلَخْ) اعْلَمْ أَنَّ قَبُولَ الْمُوصَى لَهُ شَرْطٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ لِلْمُوصَى لَهُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ قَبْلَ الْقَبُولِ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ سَيَجِيءُ بَيَانُهَا بَعْدَ هَذَا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَبُولُ الْمُوصَى لَهُ وَرَدُّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَلَا يُنْظَرُ إلَى رَدِّهِ وَلَا إلَى إجَازَتِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِذَا قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي مِلْكَ مَا أَوْصَى لَهُ بِهِ إذَا كَانَ قَدْرَ الثُّلُثِ فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْوَصِيَّةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى قَبُولِهِ لَا تَصِيرُ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَقْبَلَ وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ لَيْسَتْ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ وَلَا فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ حَتَّى يَقْبَلَ أَوْ يَمُوتَ فَيَكُونَ مَا أَوْصَى لَهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَمَوْتِهِ كَقَبُولِهِ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَجَعَلُوا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ إذَا كَانَ فِيهِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَمَاتَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّلَاثِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَتِمُّ وَتَكُونُ السِّلْعَةُ مَوْرُوثَةً عَنْ الْمُشْتَرِي إلَى هُنَا لَفْظُهُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ الْكَاشِحِ) الْكَاشِحُ الَّذِي يُخْفِي عَدَاوَتَهُ فِي كَشْحِهِ وَالْكَشْحُ مَا بَيْنَ الْخَاصِرَةِ إلَى الضِّلْعِ وَقِيلَ الْكَاشِحُ الَّذِي أَعْرَضَ وَوَلَّاك كَشْحَهُ وَإِنَّمَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَقَهْرِهَا وَلَا كَذَلِكَ فِي ذِي الرَّحِمِ الصَّدِيقِ. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ وَقِيلَ الْأُولَى) أَيْ الصَّدَقَةُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ. اهـ. .
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَمَلَكَ بِقَبُولِهِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ثُمَّ الْقَبُولُ كَمَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى ضَرْبَيْنِ: قَبُولٌ بِالصَّرِيحِ وَقَبُولٌ بِالدَّلِيلِ فَالصَّرِيحُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَبِلْت وَالدَّلِيلُ أَنْ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَيَكُونَ مَوْتُهُ قَبُولًا لِوَصِيَّتِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ اهـ أَتْقَانِيٌّ