قَوْلُهُ فِيهِمَا) أَيْ فِي الْوَدَائِعِ وَغَلَّاتِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ الْمَعْزُولَ الْتَحَقَ بِالرَّعَايَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الَّذِي فِي يَدِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ سَلَّمَهَا إلَيْهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ مُودِعُ الْقَاضِي وَيَدُ الْمُودِعِ كَيَدِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِهِ إلَّا إذَا بَدَأَ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْقَاضِي إلَيْهِ وَالْقَاضِي يُقِرُّ بِهِ لِغَيْرِهِ فَيُسَلِّمُ إلَى الْمُقِرِّ لَهُ الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ الْمُقِرُّ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ أَوْ يُنْكِرَ التَّسْلِيمَ فَحُكْمُهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْ يُقِرَّ بِأَنَّ الْمَعْزُولَ سَلَّمَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ يُقِرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ، فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِأَنَّ الْقَاضِيَ سَلَّمَهُ إلَيْهِ صَارَ كَأَنَّهُ فِي يَدِ الْقَاضِي، وَالرَّابِعُ أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّ الْقَاضِيَ سَلَّمَهُ إلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولَ لَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَقْضِي فِي الْمَسْجِدِ) وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ يَجْلِسُ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجَسٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: ٢٨]، وَالْحَائِضُ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ دُخُولِهِ وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ لَا لِلْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحُكْمِ» «وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَفْصِلُ الْخُصُومَاتِ فِي مُعْتَكَفِهِ» وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يَجْلِسُونَ لِلْحُكْمِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ عِبَادَةٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ فَيَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي الْمَسْجِدِ كَالصَّلَوَاتِ وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الِاشْتِبَاهِ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَبَعْضِ الْمُقِيمِينَ وَأَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ فِي حَقِّ الْقَاضِي فَكَانَ أَوْلَى وَلَيْسَ فِي بَدَنِ الْمُشْرِكِ نَجَاسَةٌ تُلَوِّثُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِ وَالْحَائِضُ تُخْبِرُ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَيَخْرُجُ لَهَا الْقَاضِي كَمَا إذَا كَانَتْ الْخُصُومَةُ عَلَى الدَّابَّةِ فَالْجَامِعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ وَأَسْهَلُ عَلَى النَّاسِ إذَا كَانَ وَسَطَ الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ فِي الطَّرَفِ يَخْتَارُ مَسْجِدًا آخَرَ فِي وَسَطِ الْبَلْدَةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَوْ فِي دَارِهِ) لِأَنَّ الْحُكْمَ عِبَادَةٌ لَا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ فَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي مَنْزِلِهِ فَإِذَا جَلَسَ لِلْحُكْمِ فِي مَنْزِلِهِ أَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ يَجْلِسُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ فِي مَنْزِلِهِ فِي وَسَطِ الْبَلْدَةِ وَإِلَّا فَلْيَقْعُدْ فِي وَسَطِ الْبَلْدَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجُلُوسَ لِلْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ فِي أَشْهَرِ الْأَمَاكِنِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ وَلَيْسَ فِيهِ حَاجِبٌ وَلَا بَوَّابٌ أَفْضَلَ، وَلَوْ حَكَمَ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ جَازَ، وَلَا يَحْكُمُ وَهُوَ مَاشٍ لِأَنَّ الرَّأْيَ لَا يَجْتَمِعُ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالْمَشْيِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْعُدَ فِي الطَّرِيقِ إذَا كَانَ لَا يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْكُمَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي الرَّأْيِ لِزِيَادَةِ رَاحَةٍ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ مُسْتَوِي الْجُلُوسِ أَفْضَلُ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْقَضَاءِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ اُسْتُفْتِيَ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ فَاسْتَوَى وَارْتَدَى وَتَعَمَّمَ، ثُمَّ أَفْتَى تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْفُتْيَا، وَلَا يَجْلِسُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ التُّهْمَةَ، وَإِنْ جَلَسَ وَحْدَهُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقْعِدَ مَعَهُ أَهْلَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ أَنْ يَزِلَّ عَنْ الْحَقِّ فَيُنَبِّهُونَهُ عَلَيْهِ وَيُجْلِسَهُمْ قَرِيبًا مِنْهُ لِلْمَشُورَةِ، وَكَذَا أَهْلُ الْعَدْلِ لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَعْوَانِ حَيْثُ يَكُونُونَ بَعِيدًا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ لِأَجْلِ الْهَيْبَةِ وَهُوَ أَهْيَبُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَرُدُّ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ قَرِيبِهِ أَوْ مِمَّنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِذَلِكَ) لِأَنَّ الْأُولَى صِلَةُ الرَّحِمِ وَرَدُّهَا قَطِيعَةٌ وَهِيَ حَرَامٌ وَالْمُرَادُ بِالْقَرِيبِ هُوَ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَالثَّانِيَةُ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا هِيَ جَرْيٌ عَلَى الْعَادَةِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ فِيهِمَا الرِّشْوَةُ حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُمَا خُصُومَةٌ أَوْ زَادَ عَلَى الْعَادَةِ يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ مِنْ الْغُلُولِ كَغَيْرِهِمَا مِنْ الْهَدَايَا؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الرِّشْوَةَ فَيَتَجَنَّبُ عَنْهَا وَعَلَى هَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَدَعْوَةٌ خَاصَّةٌ) أَيْ لَا يَحْضُرُ دَعْوَةً خَاصَّةً؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ لِأَجْلِهِ وَالْخَاصَّةُ هِيَ الَّتِي لَا يَتَّخِذُهَا صَاحِبُهَا لَوْلَا حُضُورُ الْقَاضِي وَقِيلَ كُلُّ دَعْوَةٍ اُتُّخِذَتْ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ فَهِيَ خَاصَّةٌ وَلَمْ يَفْصِلْ فِي الْخَاصَّةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْقَرِيبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا جَرَتْ لَهُ عَادَةٌ بِهَا أَوْ لَمْ تَجْرِ وَقَالَ فِي الْكَافِي، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَ الْمُضِيفِ قَرَابَةٌ يُجِيبُهُ فِي الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ؛ لِأَنَّ إجَابَةَ دَعَوْتِهِ صِلَةُ الرَّحِمِ.
قَالَ كَذَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ بِلَا خِلَافٍ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ لِلْقَرِيبِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُجِيبُ وَإِنَّمَا لَا يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ لِلْأَجْنَبِيِّ إذَا لَمْ يَتَّخِذْ الدَّعْوَةَ لِأَجْلِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْهَدِيَّةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ وَالْقَاضِي يُقِرُّ بِهِ لِغَيْرِهِ) أَيْ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْأَمِينُ. اهـ. (قَوْلُهُ وَيَضْمَنُ الْمُقِرُّ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي) أَيْ وَيُسَلِّمُ لِلْمُقِرِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي كَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْهِدَايَةِ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ الْهُمَامِ. اهـ. (قَوْلُهُ فَحُكْمُهُ ظَاهِرٌ) أَيْ وَهُوَ كَوْنُهُ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ الْمَعْزُولُ. اهـ. (قَوْلُهُ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجُلُوسَ لِلْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ إلَخْ) قَوْلُهُ أَنْ يَكُونَ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ بَعْدُ أَفْضَلُ أَيْ كَوْنُهُ فِي أَشْهَرِ الْأَمَاكِنِ أَفْضَلَ وَالْجُمْلَةُ مِنْ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ أَنَّ وَأَنَّ وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُ قَوْلِهِ فَحَاصِلُهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَدَعْوَةٌ خَاصَّةٌ) الدَّعْوَةُ بِفَتْحِ الدَّالِ الضِّيَافَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَرَبِ وَتَيْمُ الرَّبَابِ تَكْسِرُ دَالَهَا وَذَكَرَهَا قُطْرُبٌ بِالضَّمِّ وَغَلَّطُوهُ اهـ تَحْرِيرٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute