للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(كِتَابُ الشَّهَادَةِ) قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (هِيَ إخْبَارٌ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ لَا عَنْ تَخْمِينٍ وَحِسْبَانٍ) هَذَا فِي اللُّغَةِ فَلِهَذَا قَالُوا: إنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى الْمُعَايَنَةِ وَسُمِّيَ الْأَدَاءُ شَهَادَةً إطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الشُّهُودِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَاضِي وَمَجْلِسَ الْوَاقِعَةِ وَهِيَ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إخْبَارٍ بِصِدْقٍ مَشْرُوطٍ فِيهِ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ فَشَرْطُهَا الْعَقْدُ الْكَامِلُ وَالضَّبْطُ وَالْوِلَايَةُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَرُكْنُهَا لَفْظُ أَشْهَدُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ دُونَ الْقَسَمِ وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحُكْمِ عَلَى الْقَاضِي بِمَا تَقْتَضِيهِ الشَّهَادَةُ وَالْقِيَاسُ يَأْبَى أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ حُجَّةً مُلْزَمَةً؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَلَكِنْ تُرِكَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتَلْزَمُ بِطَلَبِ الْمُدَّعِي) أَيْ يَلْزَمُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ وَلَا يَسَعُ كِتْمَانُهَا إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: ٢٨٢] وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: ٢٨٣] وَهَذَا وَإِنْ كَانَ نَهْيًا عَنْ الْإِبَاءِ وَعَنْ الْكِتْمَانِ لَكِنْ النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ يَكُونُ أَمْرًا بِضِدِّهِ إذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِاشْتِغَالِ بِهِ فَكَانَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ فَرْضًا قَطْعًا كَفَرِيضَةِ الِانْتِهَاءِ عَنْ الْكِتْمَانِ فَصَارَ كَالْأَمْرِ بِهِ بَلْ آكَدُ وَلِهَذَا أُسْنِدَ الْإِثْمُ إلَى الْآلَةِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الْفِعْلُ وَهِيَ الْقَلْبُ؛ لِأَنَّ إسْنَادَ الْفِعْلِ إلَى مَحَلِّهِ أَقْوَى مِنْ إسْنَادِهِ إلَى كُلِّهِ، وَقَوْلُهُمْ: أَبْصَرْتُهُ بِعَيْنِي آكَدُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَبْصَرْته، وَإِسْنَادُهُ إلَى أَشْرَفِ الْجَوَارِحِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ الْجَرَائِمِ بَعْدَ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عُلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَوْ كَانُوا جَمَاعَةً فَأَدَّى غَيْرُهُ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَقُبِلَتْ فَقَالُوا لَا يَأْثَمُ وَإِنْ أَدَّى غَيْرُهُ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ يَأْثَمْ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ إذَا كَانَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ هَذَا إذَا كَانَ مَوْضِعُ الشَّاهِدِ قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَغْدُوَ إلَى الْقَاضِي لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ قَالُوا: لَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: ٢٨٢] ثُمَّ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَرْكُوبِ فَأَرْكَبَهُ الْمُدَّعِي مِنْ عِنْدِهِ قَالُوا: لَا بَأْسَ بِهِ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِكْرَامِ لِلشُّهُودِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ»، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ وَأَرْكَبَهُ الْمُدَّعِي مِنْ عِنْدِهِ قَالُوا لَا تُقْبَلُ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَسَتْرُهَا فِي الْحُدُودِ أَحَبُّ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» وَهَذَا الْحَدِيثُ وَلَفْظُ الْمُخْتَصَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَيْسَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ شُرُوطِ الشَّهَادَةِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ خَارِجٌ عَنْ ذَاتِهِ كَمَا عُرِفَ. اهـ. (قَوْلُهُ وَرُكْنُهَا لَفْظُ أَشْهَدُ) وَفِي قَوْلِ الْقَائِلِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَشْهَدُ بِرُؤْيَةِ كَذَا لِبَعْضِ الْعُرْفِيَّاتِ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ وَلَكِنْ تُرِكَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢] وَنَظِيرُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ اهـ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَيُلْزَمُ بِطَلَبِ الْمُدَّعِي) قَالَ الْكَمَالُ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا طَلَبُ ذِي الْحَقِّ أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّهِ فَإِنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُ الْحَقِّ وَخَافَ فَوْتَ الْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِلَا طَلَبٍ، وَشَرْطُهَا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْوِلَايَةُ فَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّ الدِّينَ أَصْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الْخَاصُّ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْإِخْبَارِ اهـ وَكَتَبَ أَيْضًا مَا نَصُّهُ وَقَالَ الْكَمَالُ: وَسَبَبِيَّةُ الطَّلَبِ تَثْبُتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: ٢٨٢] وَسَبَبِيَّةُ خَوْفِ الْفَوْتِ بِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ سَبَبِيَّةَ الطَّلَبِ إنَّمَا ثَبَتَتْ كَيْ لَا يَفُوتَ الْحَقُّ اهـ

(قَوْلُهُ: وَإِنْ أَدَّى غَيْرُهُ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ يَأْثَمْ) قَالَ الْكَمَالُ وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ فِيمَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي إنْ عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُهُ نَرْجُو أَنْ يَسْعَهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ وَفِي الْعُيُونِ إنْ كَانَ فِي الصَّكِّ جَمَاعَةٌ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ دُونَهُ وَسِعَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ كَانَ لَكِنْ قَبُولُهَا مَعَ شَهَادَتِهِ أَسْرَعُ وَجَبَ وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إذَا دُعِيَ فَأَخَّرَ بِلَا عُذْرٍ ظَاهِرٍ ثُمَّ أَدَّى لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهِ إذْ يُمْكِنُ أَنَّ تَأْخِيرَهُ بِعُذْرٍ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ لِاسْتِجْلَابِ الْأُجْرَةِ. اهـ. وَالْوَجْهُ أَنْ يُقْبَلَ وَيُحْمَلَ عَلَى الْعُذْرِ مِنْ نِسْيَانٍ ثُمَّ تَذَكُّرٍ أَوْ غَيْرِهِ اهـ وَكَتَبَ أَيْضًا فِي الْمُجْتَبَى عَنْ الْفَضْلِ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَأَدَائِهَا وَإِلَّا لَضَاعَتْ الْحُقُوقُ وَعَلَى هَذَا الْكَاتِبِ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ فِيمَنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَكَذَا مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ وَفِي قَوْلٍ يَجُوزُ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ عَلَيْهِ وَيُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ فِي الْعُقُودِ إلَّا فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَجِبُ وَفِي الرَّجْعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. اهـ. كَاكِيٌّ.

(قَوْلُهُ قَالُوا لَا يَأْثَمُ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِذَلِكَ) قَالَ الْكَمَالُ قَالُوا: يَلْزَمُ إذَا كَانَ مَجْلِسُ الْقَاضِي قَرِيبًا، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَعَنْ نَصْرٍ إنْ كَانَ بِحَالٍ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِهِ يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ شَيْخًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَأَرْكَبَهُ الطَّالِبُ لَا بَأْسَ بِهِ وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيمَنْ أَخْرَجَ الشُّهُودَ إلَى ضَيْعَةٍ فَاسْتَأْجَرَ لَهُمْ حَمِيرًا فَرَكِبُوهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا الْعَادَةُ وَهِيَ إكْرَامٌ لِلشُّهُودِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَفَصَلَ فِي النَّوَازِلِ بَيْنَ كَوْنِ الشَّاهِدِ شَيْخًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَلَا يَجِدُ مَا يَسْتَأْجِرُ بِهِ دَابَّةً فَيُقْبَلُ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ وَلَوْ وَضَعَ لِلشُّهُودِ طَعَامًا فَأَكَلُوا إنْ كَانَ مُهَيَّأً مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ يُقْبَلُ، وَإِنْ صَنَعَهُ لِأَجْلِهِمْ لَا يُقْبَلُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يُقْبَلُ فِيهِمَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْبَلُ فِيهِمَا وَهُوَ الْأَوْجَهُ لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِإِطْعَامِ مَنْ حَلَّ مَحَلَّ الْإِنْسَانِ مِمَّنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ شَاهِدًا أَوْ لَا وَيُؤْنِسُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِهْدَاءَ إذَا كَانَ بِلَا شَرْطٍ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ عِنْدَ الْأَمِيرِ يَجُوزُ كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْأَدَاءَ فُرِضَ بِخِلَافِ الذَّهَابِ إلَى الْأَمِيرِ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>