الشَّاهِدِ وَهُوَ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَاخْتِيَارُ الْوَلِيِّ قَتْلَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَالْفِعْلُ الِاخْتِيَارِيُّ مِنْ الْمُبَاشِرِ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ إلَى الْمُتَسَبِّبِ كَدَلَالَةِ السَّارِقِ وَفَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ وَحَلِّ قَيْدِ الْعَبْدِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَتْلُ حَقِيقَةً لِعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ وَلَا حُكْمًا لِعَدَمِ الْإِلْجَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُلْجَأَ هُوَ الَّذِي يَخَافُ الْعُقُوبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ عَلَى نَفْسِهِ فَيُؤْثِرُ نَفْسَهُ بِالطَّبْعِ فَيَكُونُ كَمَسْلُوبِ الِاخْتِيَارِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ وَلَا فِي حَقِّ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَخَافُ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُلْجَأً؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُقِيمُ الطَّاعَةَ خَوْفًا مِنْ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مَقْهُورًا.
وَالْوَلِيُّ يُبَاشِرُ الْقَتْلَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَرَجٌ فِي الْعَفْوِ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَكَيْفَ يَتَأَتَّى الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ فَيُقْدِمُ عَلَى الْقَتْلِ فَيُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرِهِ، وَالْمُكْرَهُ كَالْآلَةِ لَهُ وَلِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ يَسْقُطُ بِهَا دُونَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَإِنْ رَجَعَ الْوَلِيُّ مَعَهُمَا أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَلِيَّ الدِّيَةَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُتْلِفٌ لَهُ حَقِيقَةً، وَالشَّاهِدَانِ مُتْلِفَانِ لَهُ حُكْمًا، وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ مِثْلُ الْحَقِيقِيِّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَا عِنْدَهُمَا إنْ ضَمَّنَ الْوَلِيَّ، وَإِنْ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ فَلَهُمَا أَنْ يَرْجِعَا عَلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا عَامِلَانِ لَهُ فِي الشَّهَادَةِ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُمَا بِهَا كَمَا لَوْ شَهِدَا لَهُ بِقَتْلِ الْخَطَأِ فَقَضَى لَهُ بِهَا وَأَخَذَ الدِّيَةَ ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا.
وَهَذَا لِأَنَّهُمَا لَمَّا ضَمِنَا قَامَا مَقَامَ الْوَلِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا الْقِصَاصَ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا غَصَبَ مِنْهُ آخَرُ فَهَلَكَ عِنْدَ الثَّانِي وَاخْتَارَ الْمَوْلَى تَضْمِينَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ فَضَمَّنَهُ فَلِلْغَاصِبِ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ قَامَ مَقَامَ الْمَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْمُدَبَّرَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِمَّا يُمْلَكُ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى مَلَكَهُ الْوَلِيُّ وَوَرَثَتُهُ إذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَلَهُ بَدَلٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْتَمِلٌ لِلتَّمَلُّكِ فَيَكُونُ السَّبَبُ مُعْتَبَرًا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي بَدَلِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ أَعْمَالِهِ فِي الْأَصْلِ كَالْيَمِينِ عَلَى مَسِّ السَّمَاءِ يَنْعَقِدُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ الَّذِي هُوَ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْبِرَّ وَهُوَ مُتَصَوَّرُ الْوُجُودِ عَقْلًا وَكَذَا شُهُودُ الْكِتَابَةِ إذَا رَجَعُوا وَضَمِنُوا لِلْمَوْلَى الْقِيمَةَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِهَا عَلَى الْمُكَاتَبِ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوا مِنْهُ شَيْئًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الشُّهُودَ ضَمَّنُوا لِإِتْلَافِهِمْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ حُكْمًا، وَالْمُتْلِفُ لَا يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ بِسَبَبِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَالْوَلِيِّ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مُتْلِفِينَ لَمَا ضَمِنُوا مَعَ الْمُبَاشِرِ إذْ لَا يُعْتَبَرُ مُجَرَّدُ التَّسَبُّبِ مَعَ الْمُبَاشِرِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَافِرَ لَا يُعْتَبَرُ مَعَ الدَّافِعِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُمْ جُنَاةٌ وَمَنْ ضَمِنَ بِجِنَايَتِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا فِي الْخَطَأِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا ضَمِنَا مَلَكَا الدِّيَةَ وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْقَابِضُ بِصَرْفِهِ إلَى حَاجَتِهِ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي بَدَلِهِ أَنْ لَوْ كَانَ السَّبَبُ مِمَّا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ حُكْمِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْمِلْكِ فِي الْقِصَاصِ بِالضَّمَانِ بِحَالٍ فَلَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ خُلْفِهِ كَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ مِلْكًا لِإِنْسَانٍ حَقِيقَةً لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُتْلِفُ عَلَيْهِ بِأَنْ قَتَلَهُ شَخْصٌ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شُهُودٌ بِالْعَفْوِ ثُمَّ رَجَعُوا لَا يَضْمَنُ الْقَاتِلُ وَلَا الشُّهُودُ شَيْئًا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ وَانْعِقَادُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ وُجُودِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً وَبِهَذَا فَارَقَ مَسْأَلَةَ غَصْبِ الْمُدَبَّرِ، وَالْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ فِيهِ لَوْ كَانَ مَالِكًا حَقِيقَةً لَكَانَ يَضْمَنُهُ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ فَكَذَا إذَا جُعِلَ كَالْمَالِكِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ انْعِقَادِ السَّبَبِ لَهُ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْبَدَلِ لِذَلِكَ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا)؛ لِأَنَّ التَّلَفَ مُضَافٌ إلَى شَهَادَتِهِمْ لِصُدُورِهَا مِنْهُمْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (لَا شُهُودُ الْأَصْلِ بِلَمْ نُشْهِدْ الْفُرُوعَ عَلَى شَهَادَتِنَا أَوْ أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا) أَيْ لَا يَضْمَنُ شُهُودُ الْأَصْلِ بِقَوْلِهِمْ لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفُرُوعِ أَوْ بِقَوْلِهِمْ أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ إذْ الْقَاضِي يَقْضِي بِمَا يُعَايِنُ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ بِقَوْلِهِمْ لَمْ نُشْهِدْهُمْ أَنْكَرُوا السَّبَبَ أَصْلًا وَهُوَ الْإِشْهَادُ وَهُوَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ فَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى كَلَامِهِمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالُوا ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ حَيْثُ لَا يُقْضَى بِهِ لِإِنْكَارِهِمْ التَّحْمِيلَ وَهُوَ شَرْطٌ فِيهَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ شُهُودُ الْأَصْلِ فِيمَا إذَا قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا؛ لِأَنَّ الْفُرُوعَ قَامُوا مَقَامَ الْأُصُولِ فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِمْ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَيَحْصُلُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُمْ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ مَجْلِسَ الْقَاضِي
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُلْجَأً) تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُعَزَّرُ لَوْ لَمْ يَقْضِ بَعْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ اهـ قَارِئُ الْهِدَايَةِ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ. اهـ. غَايَةٌ
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا) اعْلَمْ أَنَّ شُهُودَ الْفَرْعِ إذَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي بَعْدَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ ضَمِنُوا الْمَشْهُودَ بِهِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَشْهُودِ بِهِ حَصَلَ بِأَدَائِهِمْ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَانَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى شَهَادَتِهِمْ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الضَّمَانُ اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ لَا شُهُودُ الْأَصْلِ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا: لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْخِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَكَذَلِكَ أَثْبَتَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مُطْلَقًا بِلَا ذِكْرِ الْخِلَافِ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي نَصْرٍ الْبَغْدَادِيِّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَضْمَنُونَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى هُنَا لَفْظُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ فِيمَا إذَا قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا) اعْلَمْ أَنَّ الْفَرْعَيْنِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَرْجِعَا عَمَّا شَهِدَا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute