وَمَوْتِ أَحَدهمَا وَعِوَضٍ وَخُرُوجٍ عَنْ الْمِلْكِ وَزَوْجِيَّةٍ وَقَرَابَةٍ مُحَرِّمَةٍ لِلنِّكَاحِ وَهَلَاكِ الْمَوْهُوبِ جَازَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهَا إلَّا فِي الْوَلَدِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ» وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ يُضَادُّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لَا يَقْتَضِي ضِدَّهُ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ جَوَازُ الرُّجُوعِ فِي الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَتِمُّ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ أَوْ بَعْضَهُ وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَثِبْ مِنْهَا» أَيْ لَمْ يُعَوَّضْ وَالْمُرَادُ بِهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ هِبَةً حَقِيقَةً قَبْلَهُ وَإِضَافَتُهَا إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ كَمَا يُقَالُ أَكَلْنَا خُبْزَ فُلَانٍ وَإِنْ كَانَ الْآكِلُ قَدْ اشْتَرَاهُ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ الْعِوَضُ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَيَادِيُّ قُرُوضٌ، وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ أَيْضًا بِالشَّرْعِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» وَالتَّفَاعُلُ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ لِفَوَاتِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ صِفَةُ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ. وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ عَدَمُ الِانْفِرَادِ بِالرُّجُوعِ إلَّا الْوَالِدَ فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ بِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رِضًا وَلَا قَضَاءٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوهُ هَنِيئًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ يُنَافِي الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قُبْحِهِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُؤْمِنُ لَا يَكْذِبُ»، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الزَّانِي لَا يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» أَيْ لَا يَلِيقُ لَهُ أَنْ يَكْذِبَ أَوْ يَزْنِيَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي صِفَةَ الْإِيمَانِ إنْ فَعَلَهُ بَلْ هُوَ قَبِيحٌ وَمَعَ الْإِيمَانِ أَقْبَحُ فَكَذَا هَذَا قَبِيحٌ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ»، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ» وَفِعْلُ الْكَلْبِ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالْقُبْحِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنَعَ الرُّجُوعَ دَمْعٌ خَزَقَهُ) يَعْنِي الْمَوَانِعَ لِلرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ أَشْيَاءُ يَجْمَعُهَا هَذِهِ الْحُرُوفُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهَا أَخَذَهَا هُوَ مِنْ بَيْتِ شِعْرٍ قِيلَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ
وَمَانِعٌ عَنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَهْ ... يَا صَاحِبِي حُرُوفُ دَمْعٍ خَزَقَهُ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَالدَّالُ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ كَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَالسِّمَنِ) لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمَوْهُوبِ وَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ بِمَوْهُوبَةٍ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا وَالْفَصْلُ مُتَعَذِّرٌ لِيَرْجِعَ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا وَبَطَلَ حَقُّ الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ التَّمَلُّكِ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ، وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِيهِمَا فَكَانَ مُرَاعَاتُهُ أَوْلَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْفَصْلِ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فَبَطَلَ أَصْلًا أَطْلَقَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ لَا يَنْقَطِعُ الرُّجُوعُ وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ فِي قِطْعَةٍ مِنْهَا بِأَنْ كَانَتْ الْأَرْضُ كَبِيرَةً بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ مِثْلُهُ زِيَادَةً فِيهَا كُلِّهَا امْتَنَعَ فِي تِلْكَ الْقِطْعَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَقَوْلُهُ الْمُتَّصِلَةُ يَحْتَرِزُ مِنْ الْمُنْفَصِلَةِ كَالْوَلَدِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الزِّيَادَةِ لِإِمْكَانِ الْفَصْلِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ حَيْثُ يَمْتَنِعُ بِزِيَادَةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَوْ رَدَّ الْأَصْلَ دُونَ الزِّيَادَةِ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا لِسَلَامَةِ الْوَلَدِ لَهُ مَجَّانًا وَرَدُّ الْوَلَدِ مَعَهَا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ فَبَطَلَ أَصْلًا وَرَجَعَ بِالنُّقْصَانِ
وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى لَا يَرْجِعُ فِي الْجَارِيَةِ الْمَوْهُوبَةِ إذَا وَلَدَتْ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا فَلَوْ حَبِلَتْ وَلَمْ تَلِدْ فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ نُقْصَانٌ وَالْمُرَادُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ فِي نَفْسِ الْمَوْهُوبِ بِشَيْءٍ يُوجِبُ زِيَادَةً فِي الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْمَذْكُورِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَكَالْجَمَّالِ وَالْخِيَاطَةِ وَالصَّبْغِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ زَادَ مِنْ حَيْثُ السِّعْرُ فَلَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِي الْعَيْنِ فَلَا يَتَضَمَّنُ الرُّجُوعُ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَهُوَ الْمَانِعُ، وَكَذَا إذَا زَادَ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْقِيمَةِ كَمَا إذَا طَالَ الْغُلَامُ الْمَوْهُوبُ؛ لِأَنَّهُ نُقْصَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلَوْ نَقَلَهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان حَتَّى ازْدَادَتْ قِيمَتُهُ وَاحْتَاجَ فِيهِ إلَى مُؤْنَةِ النَّقْلِ ذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ عِنْدَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ جَازَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ) وَقَدْ اتَّفَقُوا أَنَّهُ إذَا وَهَبَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِفَقِيرٍ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ. كَذَا فِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَثِبْ مِنْهَا») فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ لَا مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ اهـ أَتْقَانِيٌّ.
(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَمَنْعُ الرُّجُوعِ دَمْعٌ خَزَقَهُ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ الْمَوَانِعُ مِنْ الرُّجُوعِ تِسْعَةٌ الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ، وَالزَّوْجِيَّةُ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ، وَمَوْتُ الْوَاهِبِ، وَمَوْتُ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَهَلَاكُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، وَخُرُوجُهُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَحُصُولُ الْعِوَضِ، وَالتَّغَيُّرُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ. قَوْلُهُ وَالتَّغَيُّرُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَأَمَّا التَّغَيُّرُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ فَمَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذَا التَّغْيِيرُ يَمْنَعُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ إذَا وُجِدَ مِنْ الْغَاصِبِ فَلَأَنْ يَقْطَعَ حَقَّ التَّمَلُّكِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. اهـ. (قَوْلُهُ وَالْخِيَاطَةُ وَالصَّبْغُ وَنَحْوُ ذَلِكَ) وَإِنْ قَطَعَهُ وَلَمْ يَخِطْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الثَّوْبِ وَالنُّقْصَانُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَقَالَ أَيْضًا فِي الْكَافِي رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ أَرْضًا فَبَنَى الْمَوْهُوبُ لَهُ فِيهَا بِنَاءً، ثُمَّ أَرَادَ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ فَخَاصَمَهُ إلَى الْقَاضِي فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي لَيْسَ لَك أَنْ تَرْجِعَ فِيهَا، ثُمَّ هَدَمَهَا الْمَوْهُ وبُ لَهُ كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي لَمْ يَقَعْ قَضَاءً حَتَّى لَا يُنْقَضَ وَإِنَّمَا وَقَعَ فَتْوَى بِنَاءً عَلَى مَانِعٍ فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute