للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ فَهُوَ تَكْرَارٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا.

. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمَنْ قَالَ لِمَدْيُونِهِ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهُوَ لَك وَأَنْتَ مِنْهُ بَرِيءٌ أَوْ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ نِصْفَهُ فَلَكَ نِصْفُهُ أَوْ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي فَهُوَ بَاطِلٌ) لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ فِيهِ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَالْإِبْرَاءُ مِنْهُ إسْقَاطٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَالِ حَتَّى تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ وَيَصِحُّ شِرَاؤُهُ بِهِ مِنْ الْمَدِينِ وَوَصْفٌ مِنْ وَجْهٍ بِالنَّظَرِ إلَى الْحَالِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ وَلَهُ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ لَا يَحْنَثُ وَمِنْ وَجْهٍ أَنَّهُ مَالٌ كَانَ تَمْلِيكًا فَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَمِنْ وَجْهٍ أَنَّهُ وَصْفٌ كَانَ إسْقَاطًا فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ يَخْتَصُّ بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَهَذَا تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ فَبَطَلَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ النِّصْفِ إلَى أَنْ تُؤَدِّيَ إلَيَّ النِّصْفَ؛ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الصُّلْحِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَصَحَّ الْعُمْرَى لِلْمُعْمَرِ لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَ دَارِهِ لَهُ عُمْرَهُ فَإِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَيْهِ لَا الرُّقْبَى أَيْ إنْ مِتُّ قَبْلك فَهِيَ لَك) وَهَذَا تَفْسِيرُ الرُّقْبَى أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِمُعْمِرِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتُهُ لَا تُرْقِبُوا مَنْ أَرْقَبَ شَيْئًا فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَفِي لَفْظِ «جَعَلَ الرُّقْبَى لِلَّذِي أَرْقَبَهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْعُمْرَى هُوَ التَّمْلِيكُ فِي الْحَالِ وَيَجْعَلُهَا لَهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ، ثُمَّ إذَا مَاتَ تَرْجِعُ إلَيْهِ فَصَحَّ التَّمْلِيكُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ

وَمَعْنَى الرُّقْبَى أَنْ يُمَلِّكَهَا لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَكُونَ تَمْلِيكًا مُضَافًا إلَى زَمَانٍ وَهُوَ مِنْ الِارْتِقَابِ وَهُوَ الِانْتِظَارُ كَأَنَّهُ يَنْتَظِرُ مَوْتَهُ فَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ فِي الْحَالِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَصِحُّ الرُّقْبَى أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَمْلِيكُ الْحَالِ وَاشْتِرَاطٌ لِلِاسْتِرْدَادِ بَعْد مَوْتَهُ عِنْدَهُ كَالْعُمْرَى كَأَنَّ الْوَاهِبَ يَنْتَظِرُ مَوْتَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أَعْمَرَهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أَرْقَبَهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ التَّمْلِيكُ فِي الْحَالِ وَاشْتِرَاطُ الرَّدِّ فِي الْمَآلِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ بَلْ الشَّرْطُ يَبْطُلُ

وَمَتَى كَانَ التَّمْلِيكُ مُضَافًا إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ مَبْنِيًّا عَلَى تَفْسِيرِ الرُّقْبَى فَمَنْ قَالَ إنَّهُ تَمْلِيكٌ فِي الْحَالِ أَجَازَهُ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُضَافٌ لَمْ يُجِزْهُ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ حَقِيقَةً وَمِثْلُ هَذَا تَقَدَّمَ فِي نِكَاحِ الصَّائِبَاتِ وَفِي فَسَادِ الصَّوْمِ بِالْإِقْطَارِ فِي الْإِحْلِيلِ وَفِي وُجُوبِ الدَّمِ إذَا غَسَلَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ وَبِلُبْسِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ بِعُصْفُرٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَاللَّفْظُ صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ فَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الرُّقْبَى مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إبْطَالُ شَرْطِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ الِاسْتِرْدَادُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ الْإِطْلَاقِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَمِثْلُهُ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ الْعُمْرَى أَيْضًا وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا أَوْ أُرْقِبَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ

وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَفِيهِمَا أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ بَعْضُهَا يَمْنَعُهُمَا وَبَعْضُهَا يُجِيزُهُمَا وَبِالْحَمْلِ عَلَى مَا حَمَلْنَاهُ حَصَلَ التَّوْفِيقُ فَلَا مُعَارَضَةَ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَا فِي مَشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ)؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ وَيَلْزَمُ فِيهَا مَا يَلْزَمُ فِي الْهِبَةِ فَامْتَنَعَتْ بِدُونِ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا رُجُوعَ فِيهَا) أَيْ فِي الصَّدَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الثَّوَابُ دُونَ الْعِوَضِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ لَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ كَمَا لَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرِ، ثُمَّ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْهِبَةُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الْعِوَضَ دُونَ الثَّوَابِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ جُعِلَتْ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ سَوَاءً فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ فَكَذَا فِي الصَّدَقَةِ، ثُمَّ قَالَ وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي ذِكْرِ لَفْظَةِ الصَّدَقَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعِوَضَ، وَمُرَاعَاةُ لَفْظِهِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ حَالِ الْمُتَمَلِّكِ، ثُمَّ التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ يَكُونُ قُرْبَةً يَسْتَحِقُّ بِهِ الثَّوَابَ وَقَدْ يَكُونُ مَالِكًا لِلنِّصَابِ وَلَهُ عِيَالٌ كَثِيرٌ وَالنَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْحَالِ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا عِنْدَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ هَكَذَا

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ فَهُوَ تَكْرَارٌ مَحْضٌ) قَالَ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تَكْرَارَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هِبَةٌ بِشَرْطِ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ دَلِيلُ الرُّجُوعِ وَالثَّانِي هِبَةُ شَيْءٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ عِوَضًا عَنْ نَفْسِهِ اهـ

(قَوْلُهُ فَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الرُّقْبَى إلَخْ) الرُّقْبَى قَدْ تَكُونُ مِنْ الْإِرْقَابِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ التَّرْقِيبِ فَحَيْثُ قَالَ أَجَازَ الرُّقْبَى يَعْنِي إذَا كَانَ مِنْ الْإِرْقَابِ بِأَنْ يَقُولَ أَرْقَبْتُ دَارِي لَك وَحَيْثُ قَالَ رُدَّ الرُّقْبَى يَعْنِي إذَا كَانَ مِنْ التَّرْقِيبِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أُرَاقِبُ مَوْتَك وَتُرَاقِبُ مَوْتِي فَإِنْ مِتُّ أَنَا فَهِيَ لَك وَإِنْ مِتَّ أَنْتَ فَهِيَ لِي فَيَكُونُ هُنَا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ وَهُوَ مَوْتُ الْمُمَلِّكِ قَبْلَهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَمَّا احْتَمَلَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا وَالْمُلْكُ لِذِي الْيَدِ فِيهَا يَقِينًا فَلَا نُزِيلُهُ بِالشَّكِّ وَإِنَّمَا يَكُونُ قَوْلُهُ دَارِي لَك تَمْلِيكًا إذَا لَمْ يُفَسِّرْ هَذِهِ الْإِضَافَةَ بِشَيْءٍ، أَمَّا إذَا فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ رُقْبَى أَوْ حَبِيسٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ كَمَا لَوْ قَالَ دَارِي لَك سُكْنَى يَكُونُ عَارِيَّةً وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْهَمَ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ اهـ مَبْسُوطٌ السَّرَخْسِيُّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>