قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَدَيْنُهُ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ وَيُبَاعُ فِيهِ إنْ لَمْ يَفْدِهِ سَيِّدُهُ)، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ لَا بِالرَّقَبَةِ فَلَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ وَيُبَاعُ كَسْبُهُ بِالْإِجْمَاعِ لَهُمَا أَنَّ رَقَبَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ فَلَا تُبَاعُ فِي دَيْنِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الدَّيْنُ إلَّا بِتَعْلِيقِهِ؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهُ بِالْإِذْنِ تَحْصِيلُ مَالٍ لَمْ يَكُنْ لَا تَفْوِيتُ مَالٍ كَانَ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلًا، وَلَنَا أَنَّ هَذَا دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ وَالْمَهْرِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ؛ وَلِأَنَّ بَيْعَهُ بِالدَّيْنِ كَانَ جَائِزًا حِينَ كَانَ يُبَاعُ الْحُرُّ بِالدَّيْنِ عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَاعَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ سُرَّقٌ فِي دَيْنِهِ» فَانْتَسَخَ فِي حَقِّ الْحُرِّ فَيَبْقَى فِي حَقِّهِ عَلَى حَالِهِ لِعَدَمِ الْمَانِعِ، وَفِي تَعَلُّقِهِ بِرَقَبَتِهِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ وَحَامِلٌ لَهُمْ عَلَى الْمُعَامَلَةِ، وَبِهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُعْسِرَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَالٌ لَا يُعَامِلُهُ أَحَدٌ خَوْفًا مِنْ تَوْيِ مَالِهِمْ فَلَا يَحْصُلُ غَرَضُهُ، وَإِذَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ يُعَامَلُ فَيَحْصُلُ غَرَضُهُ وَيَنْتَفِي الضَّرَرُ عَنْهُ بِدُخُولِ مَا اشْتَرَاهُ الْعَبْدُ فِي مِلْكِهِ وَتَعَلُّقُهُ بِالْكَسْبِ لَا يُنَافِي تَعَلُّقَهُ بِالرَّقَبَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا جَمِيعًا، وَيَبْدَأُ بِالْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ عَلَى الْمَوْلَى مَعَ إيفَاءِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَعِنْدَ انْعِدَامِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْغُرَمَاءِ، وَلَا يُعَجِّلُ الْقَاضِي بِبَيْعِهِ بَلْ يَتَلَوَّمُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ أَوْ دَيْنٌ يَقْتَضِيهِ فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ التَّلَوُّمِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَجْهٌ بَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ نَظَرَ لِلْمَوْلَى بِالتَّلَوُّمِ فَوَجَبَ النَّظَرُ لِلْغُرَمَاءِ بِالْبَيْعِ ثُمَّ بَيْعُ الْقَاضِي هَذَا الْعَبْدَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا غَيْرِ زُفَرَ، وَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَرَى بَيْعَ الْقَاضِي مَالَ الْمُفْلِسِ، وَلَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ.
وَالْفَرْقُ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ بَيْعُ الْقَاضِي مَالَ الْمُفْلِسِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ يُؤَدِّي إلَى الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يَرَى حَجْرَ الْمُكَلَّفِ فَامْتَنَعَ لِذَلِكَ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فَإِنَّ الْمَوْلَى مَحْجُورٌ عَلَيْهِ عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ بَعْدَمَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ الدَّيْنُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِبَيْعِ الْقَاضِي وَلِهَذَا الْمَعْنَى يَبِيعُ الْقَاضِي كَسْبَ الْعَبْدِ أَيْضًا وَالْمُرَادُ بِالدَّيْنِ مَا ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى، وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّهِ فَلَا يُبَاعُ الْعَبْدُ بِهِ، وَلَا يُطَالَبُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَقَسَمَ ثَمَنَهُ بِالْحِصَصِ) أَيْ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ فَيَتَحَاصَصُونَ فِي الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْبَدَلِ كَمَا فِي التَّرِكَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِبَيْعِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى حَاضِرًا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الْخَصْمُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ كَمَا إذَا ادَّعَى رَقَبَتَهُ إنْسَانٌ، وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهِ خَصْمًا وَلِبَيْعِ كَسْبِهِ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى وَيُشْتَرَطُ حُضُورُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْخَصْمُ فِي كَسْبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا ادَّعَى كَسْبَهُ كَانَ هُوَ الْخَصْمَ فِيهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وَمَا بَقِيَ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ) أَيْ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَمَا اقْتَسَمَ الْغُرَمَاءُ ثَمَنَهُ يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا يُطَالَبُ بِهِ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُمْ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَمْ يَسْتَوْفُوا الْكُلَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَمْ تَفِ بِهِ فَيَبْقَى دَيْنُهُمْ عَلَى حَالِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَيَسْتَوْفُونَهُ إذَا قَدَرَ عَلَى إيفَائِهِ، وَلَا يَقْدِرُ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ ثَانِيًا، وَلَا اسْتِسْعَاؤُهُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يُبَاعُ عَلَيْهِ ثَانِيًا أَوْ يُسْتَسْعَى يَمْتَنِعُ مِنْ شِرَائِهِ فَيُؤَدِّي إلَى امْتِنَاعِ الْبَيْعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَعُودُ الضَّرَرُ عَلَى غُرَمَائِهِ فَلَا يُشْرَعُ؛ وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا اسْتَسْعَوْا الْعَبْدَ، وَإِنْ شَاءُوا بَاعُوهُ فَإِذَا بَاعُوهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ تَعَلُّقٌ بِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ بَيْنَ أَشْيَاءَ فَاخْتَارَ أَحَدَهَا بَطَلَ خِيَارُهُ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْكُلِّ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَوْلَاهُ الَّذِي بَاعَهُ لِلْغُرَمَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَى الْعَبْدِ تَعَلُّقٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ جَدِيدٌ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَ عَنْهُ بَعْضَهُ وَيَحُطَّ عَنْهُ بَعْضَهُ كَانَ الْحَطُّ بَاطِلًا وَالتَّأْخِيرُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ تَبَرُّعٌ، وَالتَّأْخِيرُ وَإِنْ كَانَ تَبَرُّعًا لَكِنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَأَشْبَهَ الضِّيَافَةَ وَالْهِبَةَ الْيَسِيرَةَ. اهـ غَايَةٌ.
(قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ يُبَاعُ فِيهِ) لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمَوْلَى وَفِي بَيْعِ كَسْبِهِ يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْعَبْدِ لَا الْمَوْلَى وَتَمَامُهُ فِي الْكِفَايَةِ. اهـ. مِنْ خَطِّ شَيْخِنَا الْمُقْرِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّارِحِ فِي الصَّفْحَةِ الْآتِيَةِ فِي الشَّرْحِ. اهـ. (قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ إنْ لَمْ يَفْدِهِ سَيِّدُهُ) أَيْ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ. اهـ كِفَايَةٌ. (قَوْلُهُ: فَلَا تُبَاعُ رَقَبَتُهُ إلَخْ) قَالَ فِي طَرِيقَةِ الْبُرْهَانِيَّةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّقَبَةَ تُبَاعُ فِي دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ. (قَوْلُهُ: وَيُبَاعُ كَسْبُهُ) أَيْ فِي الدَّيْنِ. اهـ. (قَوْلُهُ: ظَهَرَ وُجُوبُهُ) أَيْ عَلَى الْعَبْدِ. اهـ. (قَوْلُهُ: فِي حَقِّ الْمَوْلَى) أَيْ لِلْإِذْنِ مِنْهُ. اهـ. (قَوْلُهُ: سُرَّقٌ) قَالَ فِي الْإِصَابَةِ فِي حَرْفِ السِّينِ سُرَّقٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ وَضَبَطَهُ الْعَسْكَرِيُّ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وِزَانُ عُدَرُ، وَعُمَرُ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ تَشْدِيدَ الرَّاءِ وَيُقَالُ اسْمُ أَبِيهِ أَسَدٍ صَحَابِيٌّ نَزَلَ مِصْرَ وَيُقَالُ كَانَ اسْمُهُ الْحُبَابَ فَغَيَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ رَأَيْت رَجُلًا شَيْخًا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يُقَالُ لَهُ سُرَّقٌ فَقُلْت مَا هَذَا الِاسْمُ قَالَ سَمَّانِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اهـ. مَعَ حَذْفٍ.
وَذَكَرَ فِي الْإِصَابَةِ فِي الْكُنَى فِي تَرْجَمَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَيْنِيِّ مَا نَصُّهُ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ عَنْ الْجِيلِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَيْنِيِّ «أَنَّ سُرَّقًا اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ بَزَّا قَدِمَ بِهِ فَتَقَاصَّاهُ فَتَغَيَّبَ عَنْهُ ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ بِعْ سُرَّقًا قَالَ فَانْطَلَقْت بِهِ فَسَاوَمَنِي بِهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بَدَا لِي فَأَعْتَقْته». اهـ. وَقَالَ فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ وَسُرَّقٌ مِثَالٌ زَمِجٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ سُرَّقُ بْنُ أَسَدٍ كَانَ اسْمُهُ الْحُبَابَ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُرَّقًا. اهـ. وَفِي الْمَجْمَعِ بَابُ الْجِيمِ وَالزَّمْجُ مِثْلُ الْحَرْدِ اسْمُ طَائِرٍ يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ رِدّه براذران. اهـ.
وَفِي الْمُغْرِبِ وَسُرَّقٌ عَلَى لَفْظٍ جَمْعُ سَارِقٍ اسْمُ رَجُلٍ، وَهُوَ الَّذِي بَاعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَيْنِهِ، وَهُوَ حُرٌّ. اهـ. (قَوْلُهُ: الَّذِي بَاعَهُ لِلْغُرَمَاءِ) أَيْ لِأَجْلِ الْغُرَمَاءِ. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute