الْحُرْمَةِ وَلَا حَدَّ فِي شُرْبِهِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِلِاحْتِيَاطِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي الْحَدِّ فِي دَرْئِهِ وَلَوْ طُبِخَ الْخَمْرُ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَحِلَّ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَدْ تَقَرَّرَتْ فَلَا تَرْتَفِعُ بِالطَّبْخِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَحَلَّ الِانْتِبَاذُ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ فِي ظُرُوفِ الْأُدْمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا، وَفِي رِوَايَةٍ «نَهَيْتُكُمْ عَنْ الظُّرُوفِ وَإِنَّ ظَرْفًا لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ وَكَانَ الِانْتِبَاذُ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ حَرَامًا قَالَ ابْنُ عُمَرَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحَنْتَمَةِ، وَهِيَ الْجَرَّةُ وَنَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ، وَهِيَ الْقَرْعَةُ وَنَهَى عَنْ النَّقِيرِ، وَهِيَ أَصْلُ النَّخْلِ يُنْقَرُ نَقْرًا أَوْ يُنْسَجُ نَسْجًا وَنَهَى عَنْ الْمُزَفَّتِ وَهِيَ الْقِيرُ» الْحَدِيثَ ثُمَّ نُسِخَ بِمَا رَوَيْنَا وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَنْتَمُ الْجِرَارُ الْخُضْرُ وَفَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّقِيرَ بِالْجِذْعِ يُنْقَرُ وَسَطُهُ وَقِيلَ الْحَنْتَمُ الْجِرَارُ الْحُمْرُ ثُمَّ إنْ انْتَبَذَ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَمْرِ فَلَا إشْكَالَ فِي حِلِّهِ وَطَهَارَتِهِ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ فِيهَا الْخَمْرَ ثُمَّ انْتَبَذَ فِيهَا يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ غَسْلِ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ، وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْلَأُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَخَلُّ الْخَمْرِ سَوَاءٌ خُلِّلَتْ أَوْ تَخَلَّلَتْ) أَيْ حَلَّ خَلُّ الْخَمْرِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَخَلَّلَتْ هِيَ أَوْ خُلِّلَتْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ خَلَّلَهَا بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا كَالْمِلْحِ وَالْخَلِّ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ الْخَلُّ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا بِأَنْ كَانَ بِالنَّقْلِ مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ أَوْ إيقَادِ النَّارِ بِالْقُرْبِ مِنْهَا فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ الْفِعْلُ، وَإِنْ صَارَ بِذَلِكَ خَلًّا فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا فَقَالَ لَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ «سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا قَالَ أَهْرِقُوهَا قَالَ أَفَلَا نَجْعَلُهَا خَلًّا قَالَ لَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد؛ وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَفِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابٌ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُضَادُّ النَّهْيَ؛ وَلِأَنَّ مَا يُلْقَى فِي الْخَمْرِ يَتَنَجَّسُ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ وَمَا يَكُونُ نَجِسًا لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ تَنَجُّسُ شَيْءٍ بِالْمُلَاقَاةِ وَالِاقْتِرَابُ حَرَامٌ، وَهُوَ نَظِيرُ قَتْلِ الْمُوَرِّثِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ الْإِرْثَ لِمُبَاشَرَتِهِ الْحَرَامَ، وَإِنْ مَاتَ بِنَفْسِهِ وَرِثَهُ وَكَذَا صَيْدُ الْحَرَمِ لَا يَحِلُّ لَهُ إذَا أَخْرَجَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ حَلَّ
وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ» مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ صُوَرِهَا؛ وَلِأَنَّ بِالتَّخْلِيلِ إزَالَةَ الْوَصْفِ الْمُفْسِدِ وَإِثْبَاتَ صِفَةِ الصَّلَاحِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ تَسْكِينُ الصَّفْرَاءِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ وَالتَّغَذِّي بِهِ وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ كَالدِّبَاغِ، وَكَذَا الصَّالِحُ لِمَصَالِحَ مُبَاحٌ وَالِاقْتِرَابُ لِإِعْدَامِ الْفَسَادِ فَأَشْبَهَ الْإِرَاقَةَ وَالتَّخْلِيلُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ مَالٍ يَصِيرُ حَلَالًا فِي الْمَآلِ فَيَخْتَارُهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِمَا رُوِيَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْخَمْرُ اسْتِعْمَالَ الْخَلِّ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا انْتِفَاعَهُ كَالِائْتِدَامِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَأَنْ يُتَّخَذَ الدَّوَابُّ كَرَاسِيَّ» وَالْمُرَادُ الِاسْتِعْمَالُ وَفِي التَّنْزِيلِ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: ٣١] قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ مَا عَبَدْنَاهُمْ قَطُّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَلَيْسَ كَانُوا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ وَتُطِيعُونَهُمْ قَالَ نَعَمْ قَالَ هُوَ ذَلِكَ» فَقَدْ فَسَّرَ الِاتِّخَاذَ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ نَقُولُ لَيْسَ فِيمَا رُوِيَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ لَا تَطْهُرُ بِالتَّخْلِيلِ وَلَا لَهُ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْفِعْلِ، وَهُوَ التَّخْلِيلُ لَا غَيْرُ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ إذَا وُجِدَ أَلَا تَرَى أَنَّا نُهِينَا عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِدُونِ رِضَاهُ وَعَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ ثُمَّ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ وَكَذَا الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْبَيْعُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ثُمَّ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ يُفِيدُ حُكْمُهُ مَعَ حُرْمَتِهِ وَتَنَجُّسُ الشَّيْءِ الْمُلْقَى فِيهَا لِلْمُجَاوَرَةِ فَإِذَا صَارَتْ هِيَ خَلًّا طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ وَلَمْ يَبْقَ مُجَاوِرًا لِلنَّجَاسَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ ظَرْفَهَا طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ تَنَجُّسَهُ بِنَجَاسَتِهَا فَإِذَا طَهُرَ بِالتَّخْلِيلِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا لَمْ يُوجَدْ الْمُنَجِّسُ وَلَيْسَ فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي الْخَمْرِ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ بَلْ هُوَ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ وَلَا كَذَلِكَ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِيمَا خُلِطَ بِالْمَاءِ إنْ كَانَ الْخَمْرُ غَالِبًا وَجَبَ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيذُ غَالِبًا لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَسْكَرْ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(قَوْلُهُ وَكَانَ الِانْتِبَاذُ إلَخْ) قَالُوا، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِذَةَ تَشْتَدُّ فِي هَذِهِ الظُّرُوفِ أَكْثَرَ مِمَّا تَشْتَدُّ فِي غَيْرِهَا. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ وَنَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالدُّبَّاءُ الْقَرْعُ جَمْعُ دُبَّاءَةٍ اهـ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الشَّارِحُ، وَهُوَ الْقَرْعُ اهـ.
(قَوْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ إلَخْ) فِي طَرِيقِهِ السُّدِّيَّ اهـ. (قَوْلُهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِمَا رُوِيَ إلَخْ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ فَنَقُولُ إنَّمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِرَاقَةِ قَلْعًا وَقَمْعًا لَهُمْ عَنْ أَنْ يَحُومُوا حَوْلَ الْخُمُورِ وَيَعْتَادُوا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لَمْ يَأْمَنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنْ يَشْرَبُوهَا إذَا لَمْ يُرِيقُوهَا فَأَمَرَ بِالْإِرَاقَةِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ لَهُمْ الْفِطَامُ عَنْ الْمُسْكِرَاتِ رَخَّصَ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْعِيَةِ اهـ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute