قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يَرْكَبُهُ بِلَا ضَرُورَةٍ)؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهِ أَوْ مَنَافِعِهِ إلَى نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلِأَنَّ فِي رُكُوبِهَا اسْتِهَانَةً بِهَا وَتَعْظِيمُهَا وَاجِبٌ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: ٣٢] وَالتَّقْوَى وَاجِبٌ فَيَكُونُ التَّعْظِيمُ وَاجِبًا فَإِنْ احْتَاجَ إلَى رُكُوبِهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا، قَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: ارْكَبْهَا، قَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ: ارْكَبْهَا قَالَ إنَّهَا بَدَنَةٌ ثَلَاثًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، وَقَدْ أَجْهَدَهُ الْمَشْيُ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، قَالَ: إنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: ارْكَبْهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَدَنَةً» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ رُكُوبُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَلِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ارْكَبْهَا» بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِاضْطِرَارِ عِنْدَنَا، وَإِنْ رَكِبَهَا فَنَقَصَتْ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِهَا لِلْأَغْنِيَاءِ مُعَلَّقٌ بِبُلُوغِهَا الْمَحِلَّ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يَحْلُبُهُ)؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْهَدْيِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ حَلَبَهُ، وَانْتَفَعَ بِهِ أَوْ دَفَعَ إلَى الْغَنِيِّ ضَمِنَهُ لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِوَبَرِهِ أَوْ صُوفِهِ، وَإِنْ وَلَدَتْ تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ ذَبَحَهُ مَعَهَا، وَإِنْ بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ لِمَا ذَكَرْنَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَنْضَحُ ضَرْعَهُ بِالنُّقَّاخِ) أَيْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَنْقَطِعَ اللَّبَنُ قَالُوا: هَذَا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الذَّبْحِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا يَحْلُبُهَا، وَيَتَصَدَّقُ بِلَبَنِهَا كَيْ لَا يُضِرَّ ذَلِكَ بِهَا
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ عَطِبَ وَاجِبًا أَوْ تَعَيَّبَ أَقَامَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ)؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَتَّى يُذْبَحَ فِي مَحَلِّهِ، وَالْمَعِيبُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعَيُّبِ مَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ كَذَهَابِ الْعَيْنِ أَوْ الْأُذُنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْمَعِيبُ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ بِتَعْيِينِهِ لِذَلِكَ الْوَجْهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ صَرْفُهُ فِيهِ صَرَفَهُ فِي غَيْرِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ تَطَوَّعَ نَحَرَهُ وَصَبَغَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ وَضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهُ، وَلَمْ يَأْكُلَهُ غَنِيٌّ) لِمَا رُوِيَ عَنْ «قَبِيصَةَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ مَعَهُ بِالْبُدْنِ ثُمَّ يَقُولُ: إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَخَشِيتَ عَلَيْهِ مَوْتًا فَانْحَرْهَا ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهَا وَلَا تَطْعَمْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِك» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَمِثْلُهُ عَنْ نَاجِيَةَ الْخُزَاعِيِّ وَكَانَ صَاحِبَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ وَالْمُرَادُ بِالْعَطَبِ هُنَا مَا قَرُبَ مِنْ الْعَطَبِ وَأَرَادَ بِالنَّعْلِ قِلَادَتَهَا وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيَأْكُلَ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بِتَنَاوُلِهِ مُعَلَّقٌ بِبُلُوغِهِ مَحِلَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَتْرُكَهَا جَزَرًا لِلسِّبَاعِ، وَفِيهِ نَوْعُ تَقَرُّبٍ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَهَا الْفُقَرَاءُ مِنْ رُفْقَتِهِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَاهُ بَلْ يَتْرُكُهَا جَزَرًا لِلسِّبَاعِ قُلْنَا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَرُفْقَتَهُ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَلَا تَرَى إلَى مَا يُرْوَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ صَاحِبَ هَدْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ مِنْ الْهَدْيِ قَالَ: كُلُّ بَدَنَةٍ عَطِبَتْ مِنْ الْهَدْيِ فَانْحَرْهَا ثُمَّ أَلْقِ قَلَائِدَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ خَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا يَأْكُلُوهَا» رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَعَنْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ مِثْلُهُ ذَكَرَ مُطْلَقَ النَّاسِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ رُفْقَتِهِ وَغَيْرِهِمْ وَالْمُرَادُ بِهِ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ بِدَلِيلِ مَا نَصَّ عَلَى تَخْلِيَتِهِ لِلْمَسَاكِينِ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَهَدَايَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَتْ تَطَوُّعًا ظَاهِرًا إلَّا الْوَاحِدَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَالْقَارِنُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ، وَلَا يُقَالُ: أَنْتُمْ قَدْ اسْتَدْلَلْتُمْ بِأَكْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى جَوَازِ أَكْلِ دَمِ الْقِرَانِ وَكَيْفَ يُمْكِنُكُمْ الْقَوْلُ كَانَتْ هَدَايَاهُ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْقَارِنُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْبَاقِي تَطَوُّعٌ فَأَكَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يُقْطَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بَضْعَةٌ فَكَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ دَمِ الْقِرَانِ وَعَلَى جَوَازِ أَكْلِهِ لِلْفُقَرَاءِ إذَا عَطِبَتْ فِي الطَّرِيقِ
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَتُقَلَّدُ بَدَنَةُ التَّطَوُّعِ وَالْقِرَانِ وَالْمُتْعَةِ فَقَطْ)؛ لِأَنَّهَا دِمَاءُ نُسُكٍ، وَفِي التَّقْلِيدِ إشْهَارُهَا فَحَسُنَتْ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الطَّاعَاتِ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ حَسَنٌ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: ٢٧١]، وَفِي الْمُحِيطِ يُقَلِّدُ دَمَ النَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ وَعِبَادَةٍ وَفِيهِ إظْهَارُ الشَّعَائِرِ وَإِشْهَارُهُ فَيَلِيقُ ذَلِكَ بِالنُّسُكِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ السُّنَّةَ وَلَا يُقَلِّدُ دَمَ الْجِنَايَاتِ لِأَنَّ سَبَبَهَا الْجِنَايَةُ فَيَلِيقُ بِهَا السِّتْرُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
قَوْلُهُ: وَيُنْضِحُ ضَرْعَهُ) يُنْضِحُ بِكَسْرِ الضَّادِ أَيْ يَرُشُّ. اهـ. (قَوْلُهُ: حَتَّى يَنْقَطِعَ اللَّبَنُ) دَفْعًا لِلضَّرُورَةِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute