للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: ٢١] وَهَذِهِ الْوُجُوهُ يُتَرَجَّحُ بِهَا عَلَى التَّخَلِّي لِلنَّوَافِلِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - مَدَحَ يَحْيَى بِكَوْنِهِ سَيِّدًا وَحَصُورًا وَهُوَ مَنْ لَا يَأْتِيَ النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ أَفْضَلَ لَمَا اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ بِتَرْكِهِ قُلْنَا: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ فَضْلَ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ بِهِ، وَلَكِنْ نَقُولُ: الِاشْتِغَالُ بِالنِّكَاحِ أَفْضَلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِهِمْ ثُمَّ نُسِخَ فِي شَرِيعَتِنَا فَصَارَتْ الْعِشْرَةُ أَفْضَلَ مِنْ الْعُزْلَةِ كَمَا نُسِخَتْ الرَّهْبَانِيَّةُ وَالْخِصَاءُ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَنْعَقِدُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ وُضِعَا لِلْمَاضِي أَوْ أَحَدِهِمَا) أَيْ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِلَفْظَيْنِ وُضِعَا لِلْمَاضِي، أَوْ وُضِعَ أَحَدُهُمَا لِلْمَاضِي، وَالْآخَرُ لِلْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ فَيَنْعَقِدُ بِهِمَا كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَاخْتَصَّ بِمَا يُنْبِئُ عَنْ الْمَاضِي؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ، وَهُوَ إثْبَاتُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا، وَلَيْسَ لَهُ لَفْظٌ يَخْتَصُّ بِهِ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ فَاسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظٌ يُنْبِئُ عَنْ الثُّبُوتِ، وَهُوَ الْمَاضِي دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ لَا بِاللُّغَةِ فَكَانَ مَا يُنْبِئُ عَنْ الثُّبُوتِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُمَا الثُّبُوتُ دُونَ الْوَعْدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ أَيْضًا فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَاضِيًا، وَالْآخَرُ مُسْتَقْبَلًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: زَوِّجْنِي، فَيَقُولُ: زَوَّجْتُك؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: زَوِّجْنِي تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ وَقَوْلُهُ: زَوَّجْتُك امْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ النِّكَاحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ تَوْكِيلًا لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ تَوْكِيلٌ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فَيَكُونُ قَبُولُهُ بِتَحْصِيلِ الْفِعْلِ بِالْمَجْلِسِ فَإِذَا قَامَ قَبْلَ الْفِعْلِ فَقَدْ قَامَ قَبْلَ الْقَبُولِ فَيَبْطُلُ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: زَوِّجْنِي يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ عَادَةً لَا سَوْمًا لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ غَالِبًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْعَقِدْ بِقَوْلِهِ: زَوَّجْتُك بَعْدَ قَوْلِهِ: زَوِّجْنِي كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ فَيَلْحَقَ الْوَلِيَّ بِذَلِكَ عَارٌ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: جِئْت خَاطِبًا بِنْتَك أَوْ لِتُزَوِّجْنِيهَا فَقَالَ زَوَّجْتُكَهَا انْعَقَدَ وَلَزِمَ، قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ مَا وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فِي الْحَالِ) أَيْ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ إلَّا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فِي الْحَالِ عَنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا فِي الْحَالِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِيهِ وَلَا مَجَازًا عَنْهُ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ لِلتَّلْفِيقِ وَالنِّكَاحُ لِلضَّمِّ حَتَّى يُرَاعَى فِيهِ مَصَالِحُ الْمُتَنَاكِحِينَ وَلَا ضَمَّ وَلَا ازْدِوَاجَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكَةِ أَصْلًا حَتَّى لَا يُرَاعَى فِيهِ إلَّا مَصَالِحُ الْمَالِكِ وَلِأَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِ شَرْطٌ

وَالْكِنَايَةُ يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ، وَلَا اطِّلَاعَ لِلشُّهُودِ عَلَى النِّيَّاتِ؛ وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ مُفْسِدٌ لِلنِّكَاحِ، وَكَذَا الْهِبَةُ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ: وَهَبْتُك لِأَهْلِك فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِضِدِّهِ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

امْرَأَةً إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا عَائِشَةُ أَمَا يَكُونُ مَعَهُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ» وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الْمُرَادُ بِالدُّفِّ مَا لَا جَلَاجِلَ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. (قَوْلُهُ: كَمَا نُسِخَتْ الرَّهْبَانِيَّةُ وَالْخِصَاءُ) الْخِصَاءُ هُوَ الِاعْتِزَالُ عَنْ النِّسَاءِ كَمَا يَفْعَلُهُ الرُّهْبَانُ كَأَنَّهُ خِصَاءٌ مَعْنًى اهـ مِنْ خَطِّ الشَّارِحِ

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: وَيَنْعَقِدُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ إلَخْ) وَفِي الْبَدَائِعِ: وَالْفَوْرُ فِي الْقَبُولِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. اهـ. غَايَةٌ وَفِي التَّجْرِيدِ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ فِي الْمَجْلِسِ قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْفَوْرِ قَالَهُ فِي التَّتَارْخَانِيَّة (قَوْلُهُ: بِلَفْظَيْنِ) الْمُرَادُ بِاللَّفْظَيْنِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَالْحُكْمِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مُتَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ أَوْ مَا يَخُصُّ الْحَقِيقَةَ. اهـ. كَمَالٌ قَالَ فِي الدِّرَايَةِ: وَإِنَّمَا قَيَّدَ انْعِقَادَهُ بِاللَّفْظِ لِيُخْرِجَ الْكِتَابَةَ فَإِنَّهُ لَوْ كَتَبَ رَجُلٌ عَلَى شَيْءٍ لِامْرَأَةٍ زَوِّجِينِي نَفْسَك فَكَتَبَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ عَقِيبَهُ زَوَّجْت نَفْسِي مِنْك لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الْكَاتِيَّةِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَالْآخَرُ مُسْتَقْبَلًا) وَفِي الْيَنَابِيعِ يُرِيدُ بِالْمُسْتَقْبَلِ لَفْظَ الْأَمْرِ، وَفِيهِ: وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ مِثْلِ أَتَزَوَّجُك وَأُنْكِحُك. اهـ. تَتَارْخَانِيَّةُ

(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ النِّكَاحِ) أَيْ فَلَمْ يَكُنْ انْعِقَادُهُ بِلَفْظَيْنِ، وَإِنَّمَا اللَّفْظُ الْأَوَّلُ تَوْكِيلٌ مِنْهُ لَا غَيْرُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَلَّى فِيهِ الْوَاحِدُ طَرَفَيْ الْعَقْدِ إلَّا الْأَبُ وَالْجَدُّ اسْتِحْسَانًا وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَوَّلُهَا أَنَّ الْحُقُوقَ فِي الْبَيْعِ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ فَلَوْ تَوَلَّى الْوَاحِدُ طَرَفَيْ الْبَيْعِ أَفْضَى إلَى التَّنَافِي، وَلَا كَذَلِكَ النِّكَاحُ، فَإِنَّ وَكِيلَ الزَّوْجِ لَا يُطَالِبُ بِتَسْلِيمِ الْمَهْرِ، وَلَا غَيْرِهِ مِنْ حُقُوقِهِ؛ لِأَنَّهُ سَفِيرٌ فِيهِ، وَكَذَا وَكِيلُ الزَّوْجَةِ لَا يُطَالِبُ بِتَسْلِيمِهَا بَلْ هُوَ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَنْهَا كَذَا فِي الْغَايَةِ، وَبَقِيَّةُ الْأَوْجُهِ مَذْكُورَةٌ فِي الشَّرْحِ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ) أَيْ الثَّانِيَ اهـ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ) أَيْ الثَّالِثَ. اهـ. (قَوْلُهُ: زَوِّجْنِي) أَيْ وَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَقُولَ بَعْدَ قَوْلِ الْوَلِيِّ زَوَّجْتُكَ قَبِلْتُ (قَوْلُهُ: فَيَلْحَقُ الْوَلِيُّ بِذَلِكَ عَارٌ) وَيُقَالُ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ فَلَمْ يَقْبَلْهُ (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْبَيْعِ) أَيْ حَيْثُ لَا عَارَ فِي رَدِّهِ (قَوْلُهُ: فَقَالَ زَوَّجْتُكَهَا إلَخْ) وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ: قَدْ تَزَوَّجْتُك عَلَى ذَلِكَ صَحَّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْصُرُهُ السَّوْمُ فَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ الْإِيجَابَ. اهـ. غَايَةٌ قَالَ: زَوَّجْتُك بِنْتِي بِأَلْفٍ فَقَالَ: قَبِلْت، وَسَكَتَ عَنْ الْمَهْرِ صَحَّ، وَإِنْ قَالَ: قَبِلْت، وَلَا أَقْبَلُ الْمَهْرَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ، وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي النِّكَاحِ تَبَعٌ قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: لَوْ قَالَ: زَوِّجْنِي ابْنَتَك فَقَالَ: ارْفَعْهَا وَاذْهَبْ بِهَا حَيْثُ شِئْت بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ لَا يَنْعَقِدُ، وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: يَنْعَقِدُ، وَفِي الذَّخِيرَةِ صِرْتِ امْرَأَةً لِي فَقَالَتْ: نَعَمْ أَوْ صِرْتُ لَك، اخْتِيَارُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) أَيْ وَابْنُ حَنْبَلٍ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ حَقِيقَةً فِيهِ) أَيْ فِي النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَلَا مَجَازًا عَنْهُ) أَيْ عَنْ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} [الأحزاب: ٥٠] إلَخْ)

<<  <  ج: ص:  >  >>