للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُحْصَنَاتُ فِي الْآيَةِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُنَّ وَلِلْجُمْهُورِ مَا تَلَوْنَا وَالْمُشْرِكُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ وَلِهَذَا عُطِفَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: ١] وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفُ الْحَرَائِرُ ثُمَّ كُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ دِينًا سَمَاوِيًّا، وَلَهُ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ كَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ وَزَبُورِ دَاوُد - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَتَجُوزُ مُنَاكَحَتُهُمْ وَأَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيمَا عَدَا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا تَلَوْنَا

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالصَّابِئَةِ) أَيْ حِلُّ تَزَوُّجِ الصَّابِئَةِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا، وَهَذَا الْخِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ أَمْ لَا فَعِنْدَهُمَا هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ النُّجُومَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسُوا بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنَّمَا يُعَظِّمُونَ النُّجُومَ كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِ الْكَعْبَةَ فَإِنْ كَانَ كَمَا فَسَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ وَإِنْ كَانَ كَمَا فَسَّرَاهُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَقِيلَ: فِيهِمْ الطَّائِفَتَانِ وَقِيلَ: هُمْ صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى يَقْرَؤُنَّ الزَّبُورَ، وَهُمْ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ، وَهُمْ بِنَفْسِهِمْ يَعْتَقِدُونَ الْكَوَاكِبَ آلِهَةً وَيُضْمِرُونَ ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَجِيزُونَ إظْهَارَ مَا يَعْتَقِدُونَ أَلْبَتَّةَ فَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَا يُظْهِرُونَ وَبَنَيَا عَلَى مَا يُضْمِرُونَ، وَقَالَ السُّدِّيَّ: هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْيَهُودِ كَالسَّامِرَةِ وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ هُمْ قَوْمٌ يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ وَيَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُصَلُّونَ إلَى الْكَعْبَةِ أَخَذُوا مِنْ كُلِّ دِينٍ شَيْئًا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَلَوْ أَوْرَدْنَاهُ لَطَالَ الْكَلَامُ فِيهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي مُنَاكَحَتِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا نَشَأَ الْخِلَافُ مَبْنِيًّا عَلَى اشْتِبَاهِ مَذَاهِبِهِمْ فَكُلٌّ أَجَابَ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْمُحْرِمَةِ وَلَوْ مُحْرِمًا) أَيْ حَلَّ تَزَوُّجَ الْمُحْرِمَةِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَزَوِّجُ بِهَا مُحْرِمًا أَوْ الْوَلِيُّ الْمُزَوِّجُ لَهَا مُحْرِمًا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَلَا يَخْطُبُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَلَنَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ وَبَنَى بِهَا، وَهُوَ حَلَالٌ» وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: قَدْ رَوَى أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ نِسَائِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ» قَالَ الطَّحَاوِيُّ: نَقَلَةُ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ يُحْتَجُّ بِرِوَايَاتِهِمْ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَالْمُحْرِمُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ كَشِرَاءِ الْجَارِيَةِ لِلتَّسَرِّي، وَلَوْ جُعِلَ عَقْدُ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ، وَهُوَ الْوَطْءُ لَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ أَوْ فِي إفْسَادِ الْإِحْرَامِ لَا فِي بُطْلَانِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَبْقَى النِّكَاحُ وَلَوْ كَانَ مُنَافِيًا لِابْتِدَائِهِ لَكَانَ مُنَافِيًا لِبَقَائِهِ كَالرَّضَاعِ وَلَا تَأْثِيرَ لِثُبُوتِ الْحِلِّ كَالرَّجْعَةِ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ عِنْدَهُ، وَكَذَا لَا تَأْثِيرَ لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ فِي مَنْعِ الْعَقْدِ كَتَزَوُّجِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا وَحَدِيثُ عُثْمَانَ ضَعِيفٌ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فَلَا يَلْزَمُ حُجَّةٌ وَلَئِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَطْءِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفُ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْسَتْ الْعِفَّةُ شَرْطًا بَلْ هُوَ لِلْعَادَةِ أَوْ لِنَدْبِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجُوا غَيْرَهُنَّ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ آنِفًا، وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى حِلِّ الْكِتَابِيَّةِ الْحُرَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَةُ الْكِتَابِيَّةُ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهَا. اهـ.

(قَوْلُهُ: وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا) وَفِي فَتَاوَى الْعَتَّابِيِّ الْمُخْتَارُ قَوْلُهُمَا. اهـ. كَاكِيٌّ (قَوْلُهُ: وَقِيلَ هُمْ صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى إلَخْ) قَالَ السُّرُوجِيُّ نَقْلًا عَنْ السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَا نَصُّهُ عِنْدَهُ: هُمْ صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى يَقْرَؤُنَّ الزَّبُورَ وَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُونَ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ اهـ فَقَوْلُ الشَّارِحِ: وَهُمْ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ أَيْ إيَّاهَا يُظْهِرُونَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ الرَّاجِعِ إلَى الْقِرَاءَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ يَقْرَءُونَ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا الْمَفْعُولَ مُقَدَّمًا لِيُفِيدَ الْمَقْصُودَ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يُظْهِرُونَ مِنْ مُعْتَقَدِهِمْ سِوَى الْقِرَاءَةِ، وَلَمْ نُقَدِّرْهُ مُتَّصِلًا مُؤَخَّرًا لِأَنَّ مُفَادَ التَّرْكِيبِ حِينَئِذٍ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لَا غَيْرُهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْمَقْصُودِ فَلْيُتَأَمَّلْ ثُمَّ وَقَفْت بَعْدَ هَذَا عَلَى نُسْخَةِ الشَّارِحِ الَّتِي بِخَطِّهِ فَوَجَدَتْ عِبَارَتَهُ وَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُونَ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ كَمَا نَقَلْته عَنْ السُّرُوجِيِّ فَلَا مَحَلَّ لِهَذِهِ الْحَاشِيَةِ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَهُمْ الَّذِينَ) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ وَهُوَ الَّذِي اهـ وَقَوْلُهُ وَهُمْ أَيْ هَذَا الصِّنْفُ. اهـ. (قَوْلُهُ: وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِمْ اخْتِلَافًا) هُوَ مَنْصُوبٌ فِي خَطِّ الشَّارِحِ. اهـ.

(قَوْلُهُ: حَلَّ تَزَوُّجُ الْمُحْرِمَةِ إلَخْ) أَمَّا الْوَطْءُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ) أَيْ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: «لَا يَنْكِحْ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحْ») هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ كَذَلِكَ وَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَا يَنْكِحُ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يَتَزَوَّجُ، وَالثَّانِي لَا يُنْكِحْ بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يُزَوِّجُ غَيْرَهُ قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: وَمَنْ فَتَحَ الْكَافَ مِنْ الثَّانِي فَقَدْ صَحَّفَ، وَالْحَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَنْكِحْ مَكْسُورَةٌ كَمَا رَوَاهُ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، وَلَا يَصِحُّ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ إخْبَارٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُحِبُّ فِي أَحْكَامِهِ فِي الْحَجِّ اهـ مِنْ الْمُحَرَّرِ الْمُذَهَّبِ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْمُهَذَّبِ لِابْنِ الْمُلَقِّنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اهـ وَقَوْلُهُ لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكِحُ كَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ يَقُولُ لَوْ أَحْرَمَ قَاضٍ وَلَهُ نَائِبٌ فِي بَلْدَةٍ عَقَدَ أَنْكِحَةً فَعُقُودُهُ بَاطِلَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. اهـ. مُقْنِعْ شَرْحِ مَجْمَعٍ لِابْنِ الْأَضْرَبِ (قَوْلُهُ: وَفِي رِوَايَةٍ «وَلَا يَخْطُبْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ) أَيْ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَهُوَ حَلَالٌ) وَمَاتَتْ بِسَرِفٍ. اهـ. غَايَةٌ (قَوْلُهُ: وَلَا تَأْثِيرَ لِثُبُوتِ الْحِلِّ كَالرَّجْعَةِ) يَعْنِي لَوْ رَاجَعَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ كَانَتْ رَجْعَتُهُ صَحِيحَةً بِالِاتِّفَاقِ وَعِنْدَ الْخَصْمِ الرَّجْعَةُ سَبَبٌ يَثْبُتُ الْحِلِّ بِهِ فِي الْوَطْءِ، وَلَمْ يَكُنْ الْمُحْرِمُ مَمْنُوعًا عَنْهُ فَكَذَا النِّكَاحُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (قَوْلُهُ: كَتَزَوُّجِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا) وَصُورَتُهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِأَجْلِ الظِّهَارِ فَكَذَا الْمُحْرِمُ اهـ مِنْ خَطِّ الشَّارِحِ

<<  <  ج: ص:  >  >>