قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (نَفَذَ نِكَاحُ حُرَّةٍ مُكَلَّفَةٍ بِلَا وَلِيٍّ)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ أَوَّلًا يَقُولُ إنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِوَلِيٍّ إذَا كَانَ لَهَا وَلِيٌّ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: إنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفْئًا لَهَا جَازَ وَإِلَّا فَلَا، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: جَازَ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كُفْئًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كُفْئًا لَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَيُرْوَى رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِهِمَا: وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَنْفُذُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ أَصْلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: ٢٣٢]، فَلَوْلَا أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ لَمَا مُنِعَ عَنْ الْعَضْلِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ أَبْيَنُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ»
وَقَدْ رَوَوْا فِي كُتُبِهِمْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً لَيْسَ لَهَا صِحَّةٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ حَتَّى قَالَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَعِينٍ: لَمْ يَصِحَّ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ يَعْنِي عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: ٢٣٤] وقَوْله تَعَالَى {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: ٢٣٢] وقَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: ٢٣٠] وقَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: ٢٣٠] وَهَذِهِ الْآيَاتُ تُصَرِّحُ بِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْمَذْكُورَ فِيهَا مَنْسُوبٌ إلَى الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ يَنْكِحْنَ وَحَتَّى تَنْكِحَ، وَهَذَا صَرِيحٌ بِأَنَّ النِّكَاحَ صَادِرٌ مِنْهَا، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {فِيمَا فَعَلْنَ} [البقرة: ٢٣٤] وَ {أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: ٢٣٠] صَرِيحٌ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَفْعَلُ وَهِيَ الَّتِي تَرْجِعُ، وَمَنْ قَالَ لَا يَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ فَقَدْ رَدَّ نَصَّ الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ؛ وَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ بَالِغَةٌ عَاقِلَةٌ فَتَكُونُ لَهَا الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهَا كَالْغُلَامِ وَكَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَاسْتِدْلَالهمَا بِالنَّهْيِ عَنْ الْعَضْلِ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الْمَنْعِ عَنْ مُبَاشَرَتِهَا الْعَقْدَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بَعْدَمَا نُهِيَ عَنْهُ
وَهَذَا كَمَنْ يَقُولُ: نُهِيت عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِي حَقُّ الْقَتْلِ لَمَا نُهِيت عَنْهُ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ أَقَرَّتْ بِالنِّكَاحِ صَحَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إنْشَاءُ الْعَقْدِ لَمَا صَحَّ كَالرَّقِيقِ وَالصِّغَارِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْكُفْءِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَشْيَاءِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْفَتْوَى بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ لِفَسَادِ الزَّمَانِ، وَقَوْلُهُ: نَفَذَ نِكَاحُ حُرَّةٍ مُكَلَّفَةٍ يَدْخُلُ تَحْتَهُ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا وَمَا رَوَيْنَا وَمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ.
قَالَ:
ــ
[حاشية الشِّلْبِيِّ]
لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وِلَايَةٌ، وَكَذَا الْكَافِرُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْهُ وَالْمُسْلِمُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْكَافِرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْهُ، وَكَذَا الْعَبْدُ لَا وِلَايَةَ لَهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ أَحَدٍ كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ اهـ، وَقَالَ الْكَمَالُ أَوْلَى الشُّرُوطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا غَالِبًا الشَّرْطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ وَهُوَ عَقْدُ الْوَلِيِّ وَالْوَلِيُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْوَارِثُ فَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، الْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ نَوْعَانِ: وِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَهُوَ الْوِلَايَةُ عَلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَوِلَايَةُ إجْبَارٍ وَهُوَ الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَكَذَا الْكَبِيرَةُ الْمَعْتُوهَةُ وَالْمَرْقُوقَةُ وَتَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ أَرْبَعَةٍ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَالْوَلَاءِ وَالْإِمَامَةِ اهـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ: الْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ كَأَغْنِيَاءَ جَمْعُ غَنِيٍّ (قَوْلُهُ: نَفَذَ نِكَاحُ حُرَّةٍ مُكَلَّفَةٍ بِلَا وَلِيٍّ) إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْمُسْتَحَبِّ اهـ فَتْحٌ (قَوْلُهُ: وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَنْفُذُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ أَصْلًا) أَيْ أَصِيلَةً كَانَتْ أَوْ وَكِيلَةً.
اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» إلَخْ) قَالَ الرَّازِيّ وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَمَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا أَوْ صَغِيرَةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ اهـ. وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ اهـ.
غَايَةٌ (قَوْلُهُ: بِأَنَّ النِّكَاحَ صَادِرٌ مِنْهَا)؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ إسْنَادِ الْفِعْلِ إلَى فَاعِلِهِ اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» إلَخْ) وَالْأَيِّمُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا فِي كِتَابِ الْأَمْثَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ فِي أَمْثَالِ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ كُلُّ ذَاتِ بَعْلٍ سَتَئِيمُ يُضْرَبُ لِتَحَوُّلِ الزَّمَنِ بِأَهْلِهِ وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْأَوَّلِ:
أَفَاطِمُ إنِّي هَالِكٌ فَتَثَبَّتِي ... وَلَا تَجْزَعِي كُلُّ النِّسَاءِ تَئِيمُ
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِكُلٍّ مِنْهَا وَمِنْ الْوَلِيِّ حَقًّا فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ أَحَقُّ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ سِوَى مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ إذَا رَضِيَتْ، وَقَدْ جَعَلَهَا أَحَقَّ مِنْهُ بِهِ اهـ.
فَتْحٌ (قَوْلُهُ: «أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا») وَيُرْوَى مِنْ أَبِيهَا اهـ.
غَايَةٌ (قَوْلُهُ: مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ) لَيْسَ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ اهـ.
ق (قَوْلُهُ: وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالنَّهْيِ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ وَالْجَوَابُ أَمَّا الْآيَةُ فَمَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهِنَّ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ لَا تَمْنَعُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ إذَا أُرِيدَ بِالنِّكَاحِ الْعَقْدُ هَذَا بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِ الْخِطَابِ لِلْأَوْلِيَاءِ وَإِلَّا فَقَدْ قِيلَ لِلْأَزْوَاجِ فَإِنَّ الْخِطَابَ مَعَهُمْ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: ٢٣٢] أَيْ لَا تَمْنَعُوهُنَّ حِسًّا حَبْسًا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ (قَوْلُهُ: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ اهـ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَشْيَاءِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ) أَيْ وَلَيْسَ كُلُّ وَلِيٍّ يُحْسِنُ الْمُرَافَعَةَ وَالْخُصُومَةَ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ وَلَوْ أَحْسَنَ الْوَلِيُّ وَعَدَلَ الْقَاضِي فَقَدْ يَتْرُكُ آنِفَةً لِلتَّرَدُّدِ عَلَى أَبْوَابِ الْحُكَّامِ وَاسْتِثْقَالًا لِنَفْسِ الْخُصُومَاتِ فَيَتَقَرَّرُ الضَّرَرُ فَكَأَنَّهُ مَنَعَهُ دَفْعًا لَهُ وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ عَدَمِ الصِّحَّةِ الْمُفْتَى بِهِ بِمَا إذَا كَانَ لَهَا أَوْلِيَاءٌ أَحْيَاءٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ إنَّمَا كَانَ عَلَى مَا وَجَّهَ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ دَفْعًا لِضَرَرِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَقَرَّرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّهَا فَقَدْ سَقَطَ بِرِضَاهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي فَصْلِ الْكَفَاءَةِ اهـ.
كَمَالٌ (قَوْلُهُ: وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى الْمُخْتَارِ لِلْفَتْوَى لَوْ زَوَّجَتْ الْمُطَلَّقَةُ نَفْسَهَا ثَلَاثًا بِغَيْرِ كُفْءٍ وَدَخَلَ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ قَالُوا يَنْبَغِي أَنْ تَحْفَظَ هَذِهِ فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ غَيْرَ كُفْءٍ وَأَمَّا لَوْ بَاشَرَ الْوَلِيُّ عَقْدَ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَإِذَا جَازَ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْكَفَاءَةِ اهـ.