للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الْآيَةِ دَلَالَةُ الْإِلْزَامِ وَإِنَّمَا هِيَ تُوجِبُ التَّخْيِيرَ، وَفِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَجِيئَهُمَا شَرْطٌ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ جَاءُوكَ} [المائدة: ٤٢]، وَذَكَرَ فِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْمُحِيطِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَوْ طَلَبَتْ التَّفْرِيقَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الزَّوْجِ.

وَكَذَا فِي الْخُلْعِ وَعِدَّةِ الْمُسْلِمِ لَوْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ زَوْجٍ آخَرَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَا يَنْكِحُ مُرْتَدٌّ أَوْ مُرْتَدَّةٌ أَحَدًا)؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لَهُ وَمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِلْبَقَاءِ، وَالْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَا شُرِعَ لِأَجْلِهِ فَلَا يُشْرَعُ وَالتَّأْخِيرُ ضَرُورَةُ التَّأَمُّلِ وَفِيمَا وَرَاءَهَا كَأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ وَاشْتِغَالُهُ بِالنِّكَاحِ يَشْغَلُهُ عَنْ شَيْءٍ حَيَاتُهُ لِأَجْلِهِ، وَكَذَا الْمُرْتَدَّةُ؛ لِأَنَّهَا تُحْبَسُ لِلتَّأَمُّلِ، وَخِدْمَةُ الزَّوْجِ تَشْغَلُهَا عَنْهُ فَلَا يُشْرَعُ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمَصَالِحِهِ وَهِيَ السَّكَنُ وَالِازْدِوَاجُ وَالتَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ لَا لِعَيْنِهِ فَإِذَا فَاتَ مَا شُرِعَ لَهُ لَمْ يُشْرَعْ أَصْلًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَتْ شَرْعِيَّتُهُ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ لَمْ يُشْرَعْ فِي مَحَلٍّ لَا يُقْبَلُ حُكْمُهُ.

وَكَذَا النِّكَاحُ وَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا مُسْتَحِقُّ الْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ التَّزَوُّجُ مَعَ أَنَّهُ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِيهِ فَيُسَلَّمُ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ غَالِبًا لَا سِيَّمَا إذَا أَعْرَضَ عَمَّا نَشَأَ عَلَيْهِ وَرَأَى مَحَاسِنَهُ، وَكَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْنَا الْوَثَنِيُّ حَيْثُ تَصِحُّ مُنَاكَحَتُهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَا دِينَ لَهُمْ؛ لِأَنَّا نَعْنِي بِالْمِلَّةِ دِينًا يُعْتَقَدُ صِحَّتُهُ وَلَمْ يُقَرَّ بِبُطْلَانِهِ، وَقَدْ وُجِدَ فِيهِمْ ذَلِكَ وَالْمُرْتَدُّ قَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ قَبْلَ الِارْتِدَادِ فَافْتَرَقَا.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا)؛ لِأَنَّهُ أَنْظَرُ لَهُ وَهَذَا إذَا لَمْ تَخْتَلِفْ الدَّارُ بِأَنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَانَ الصَّغِيرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَسْلَمَ الْوَالِدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَلَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْوَالِدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ لَا يَتْبَعُهُ وَلَدُهُ وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْوَالِدُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْمَجُوسِيُّ شَرٌّ مِنْ الْكِتَابِيِّ)؛ لِأَنَّهُ لَهُ دِينٌ سَمَاوِيٌّ دَعْوَى وَلِهَذَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمْ وَيَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ الْمَجُوسُ شَرًّا حَتَّى إذَا وُلِدَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يَكُونُ كِتَابِيًّا تَبَعًا لَهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَكُونُ مَجُوسِيًّا؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ فَأَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْحِلَّ فَيُرَجَّحُ مَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُعَارِضُ الْإِسْلَامَ وَلَنَا أَنَّ حِلَّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَيُرَجَّحُ بِهِمَا كَمَا يُرَجَّحُ بِالْإِسْلَامِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا؛ وَلِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

أَبْطَلَا اعْتِقَادَهُمَا لِجَوَازِ النِّكَاحِ اهـ. وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ بِخِلَافِ مُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا وَرِضَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ اعْتِقَادُ الْآخَرِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ الشَّرْعِيِّ بِعَدَمِ التَّعَرُّضِ لَهُ بِلَا مُعَارِضٍ، وَالْأَوْجُهُ تَخْرِيجُ الْخِلَافِ فِي مُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ حِينَ صَدَرَ كَانَ بَاطِلًا عِنْدَهُمَا لَكِنْ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلْوَفَاءِ بِالذِّمَّةِ فَإِذَا انْقَادَ أَحَدُهُمَا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ كَانَ كَإِسْلَامِهِ، وَعِنْدَهُ كَانَ صَحِيحًا وَرَفْعُ أَحَدِهِمَا لَا يُرَجِّحُهُ عَلَى الْآخَرِ فِي إبْطَالِ اسْتِحْقَاقِهِ، بَلْ يُعَارِضُهُ الْآخَرُ فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى الصِّحَّةِ هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ الْمُرَافَعَةِ.

أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا فَلَا يُفَرَّقُ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ عَلَى مَا فِي الْمَبْسُوطِ فِي الذِّمِّيِّينَ أَنَّهُ يُفَرَّقُ إذَا عُدَّ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ فَرِّقُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَمَحَارِمِهِمْ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ، بَلْ الْمَعْرُوفُ مَا كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَا بَالُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ تَرَكُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ وَاقْتِنَاءِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فَكَتَبَ إلَيْهِ إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِيُتْرَكُوا وَمَا يَعْتَقِدُونَ وَإِنَّمَا أَنْتَ مُتَّبِعٌ وَلَسْت بِمُبْتَدِعٍ، وَالسَّلَامُ؛ وَلِأَنَّ الْوُلَاةَ وَالْقُضَاةَ مِنْ وَقْتِ الْفُتُوحَاتِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمُبَاشَرَتِهِمْ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ اهـ.

كَمَالٌ (قَوْلُهُ: وَكَذَا فِي الْخُلْعِ) يَعْنِي اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الذِّمِّيِّ، ثُمَّ أَمْسَكَهَا فَرَفَعَتْهُ إلَى الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ إمْسَاكَهَا ظُلْمٌ وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الْعَهْدَ عَلَى تَقْرِيرِهِمْ عَلَى الظُّلْمِ اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ: وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ زَوْجٍ آخَرَ إلَخْ)؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا خُصُوصَ عَدَدٍ اهـ. فَتْحٌ

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: وَلَا يَنْكِحُ مُرْتَدٌّ أَوْ مُرْتَدَّةٌ أَحَدًا) سَوَاءٌ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً أَوْ مُرْتَدَّةً اهـ. قَالَ الْكَمَالُ: أَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ تَحْتَ كَافِرٍ، وَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَلِأَنَّهُ مَقْتُولٌ مَعْنًى اهـ. وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ رَافِعَةٌ لِلنِّكَاحِ فَلَأَنْ تَكُونَ مَانِعَةً أَوْلَى؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ؛ وَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ مُزِيلَةً لِلْمِلْكِ فَلَا يُسْتَفَادُ الْمِلْكُ مَعَهَا كَالْمَوْتِ اهـ (قَوْلُهُ: وَالتَّنَاسُلُ) أَيْ وَحُسْنُ الْعَشَرَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُرْتَدَّةِ إذْ لَيْسَ مَعَ الِاخْتِلَافِ ائْتِلَافٌ اهـ.

أَتْقَانِيٌّ

(قَوْلُهُ: أَوْ كَانَ الصَّغِيرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَخْ) مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّارِحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْ كَانَ الصَّغِيرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَخْ أَنَّ الْأَبَ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَصِيرُ وَلَدُهُ الَّذِي هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ لِعَدَمِ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ فِي هَذَا وَخَالَفَهُ الْكَمَالُ فَقَالَ هَذَا إذَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ.

أَمَّا لَوْ تَبَايَنَتْ دَارَاهُمَا بِأَنْ كَانَ الْأَبُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْوَلَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ عَلَى الْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْأَبِ وَسَنَذْكُرُهَا فِي السِّيَرِ فِي فَصْلٍ مِنْ بَابِ الْمُسْتَأْمِنِ إنْ شَاءَ تَعَالَى اهـ. قَالَ الرَّازِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا إذَا لَمْ تَخْتَلِفْ الدَّارُ فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الدَّارُ فَالْوَلَدُ تَابِعٌ لِلدَّارِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْأَبُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَالْوَلَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ اهـ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: وَالْمَجُوسِيُّ) الَّذِي فِي خَطِّ الشَّارِحِ الْمَجُوسُ اهـ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ إلَخْ) قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعَارُضَ هُنَا تَجُوزُ فَإِنَّ ثُبُوتَهُ ثُبُوتُ الْمُتَعَارِضَيْنِ مُسْتَلْزِمَيْنِ لِحُكْمَيْهِمَا، وَلَيْسَ هُنَا إلَّا ثُبُوتُ حُكْمٍ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارٍ وَضِدُّهُ عَلَى تَقْدِيرٍ آخَرَ، فَلَمَّا اشْتَرَكَ مَعَ الْمُعَارَضَةِ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِالْقَوْلِ بِهِ سُمِّيَ تَعَارُضًا وَإِلَّا فَالتَّعَارُضُ تَقَابُلُ الْحُجَّتَيْنِ، وَلَيْسَ هُنَا حُجَّةٌ فَضْلًا عَنْ ثِنْتَيْنِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>