للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالدَّلَالَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُضْمِرَ خِلَافَ الظَّاهِرِ وَلَنَا أَنَّ الْحَالَ أَقْوَى دَلَالَةً مِنْ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ وَالنِّيَّةُ بَاطِنَةٌ وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ يَا عَفِيفُ أَوْ يَا عَتِيقُ أَوْ يَا بَرِيًّا مِنْ الْعُيُوبِ وَنَحْوِهِ يَكُونُ مَدْحًا لَهُ فِي حَالِ تَعْظِيمِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ حَسَّانُ يَمْدَحُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

فَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدٍ

وَفِي حَالِ الشَّتْمِ وَالْغَضَبِ يَكُونُ ذَمًّا كَمَا قَالَ النَّجَاشِيُّ يَهْجُو قَوْمًا

قَبِيلَتُهُ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ... وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلٍ

، وَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ حَتَّى لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَلَّ سَيْفَهُ وَقَصَدَ إنْسَانًا وَالْحَالُ يَدُلُّ عَلَى الْمَزْحِ وَاللَّعِبِ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ الْجِدِّ وَإِظْهَارُ الْمَزْحِ لِلتَّمَكُّنِ، وَلَوْ دَلَّ الْحَالُ عَلَى الْجِدِّ جَازَ قَتْلُهُ دَفْعًا فَكَانَتْ الْحَالَةُ الظَّاهِرَةُ مُغْنِيَةً عَنْ النِّيَّةِ وَمُعِينَةً لِلْجِهَةِ ظَاهِرًا فَإِذَا قَالَ لَمْ أُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ أَرَادَ بُطْلَانَ حُكْمِ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ نَوَيْت بِهِ الطَّلَاقَ عَنْ وَثَاقٍ وَعَلَى هَذَا أَحْكَامٌ جَمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ الْحَالِ فَلَا يُنْكِرُهَا إلَّا مُكَابِرٌ كَتَعْيِينِ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ عِنْدَ إطْلَاقِ الثَّمَنِ مَعَ اخْتِلَافِ النُّقُودِ وَصَرْفِ مُطْلَقِ النِّيَّةِ فِي الْحَجِّ إلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِلضَّرُورَةِ بِدَلَالَةِ حَالِهِمَا، وَأَوْضَحُ مِنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ نَعَمْ لَزِمَهُ، وَلَوْ قَالَ أَعْتَقْت عَبْدَك فَقَالَ نَعَمْ عَتَقَ لِإِقْرَارِهِ بِهِ دَلَالَةً.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَتَطْلُقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فِي اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ) يَعْنِي لَا يَقَعُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَّا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَوْ نَوَى ثَلَاثًا أَوْ ثِنْتَيْنِ كَمَا فِي الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْمَصْدَرَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِسَوْدَةِ اعْتَدِّي ثُمَّ رَاجَعَهَا»، وَلِأَنَّ حَقِيقَتَهَا أَمْرٌ بِالْحِسَابِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا اعْتِدَادُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهَا أَوْ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهَا الزَّوْجُ أَوْ الِاعْتِدَادُ مِنْ النِّكَاحِ فَإِذَا نَوَاهُ زَالَ الْإِبْهَامُ وَوَجَبَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ اقْتِضَاءً فَيَكُونُ الْمُقْتَضَى صَرِيحَ الطَّلَاقِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا طَلَّقْتُك فَاعْتَدِّي وَهُوَ رَجْعِيٌّ وَلَا يَقْبَلُ الْعَدَدَ وَقَبْلَ الدُّخُولِ جُعِلَ مُسْتَعَارًا عَنْ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَاسْتُعِيرَ الْحُكْمُ لِسَبَبِهِ فَجَازَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ عِلَّةً لِكَوْنِهِ مُخْتَصًّا بِهِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: ٣٦] أَيْ عِنَبًا فَصَارَ مَجَازًا عَنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَهُوَ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ صَرِيحٌ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الِاعْتِدَادِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الِاسْتِبْرَاءَ لِيُطَلِّقَهَا أَوْ بَعْدَمَا طَلَّقَهَا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِدُونِ الْقَرِينَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَرْأَةِ أَيْ أَنْتِ وَاحِدَةٌ عِنْدَ قَوْمِك أَوْ عِنْدِي أَوْ لِعَدَمِ نَظِيرِهَا فِي الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ أَوْ فِي الْقُبْحِ فَإِذَا زَالَ الْإِبْهَامُ بِالنِّيَّةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ كَانَ الْوَاقِعُ بِهِ صَرِيحَ الطَّلَاقِ وَهُوَ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَالنَّصُّ عَلَى الْوَاحِدَةِ يُنَافِي الْعَدَدَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِعْرَابِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ نَصَبَ الْوَاحِدَةِ وَقَعَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ؛ لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَإِنْ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً) أَيْ. وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُصَدِّقُهُ سُبْحَانَهُ إذَا نَوَى خِلَافَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْحَالِ فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ أَوْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ يُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي بِالْوُقُوعِ أَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَا يَقَعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ مُطْلَقًا، أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ إذْ قَالَ أَرَدْت عَنْ وَثَاقٍ لَا يُصَدِّقُهُ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ هِيَ زَوْجَتُهُ إذَا كَانَ نَوَاهُ. اهـ. كَمَالٌ.

(قَوْلُهُ فَيَكُونُ الْمُقْتَضَى صَرِيحَ الطَّلَاقِ) قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاقْتِضَاءِ وَثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فِيمَا إذَا قَالَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ أَمَّا قَبْلَهُ فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ كُونِي طَالِقًا بِاسْمِ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ لَا الْمُسَبِّبِ عَنْ السَّبَبِ لِيَرِدَ أَنَّ شَرْطَهُ اخْتِصَاصُ الْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ وَالْعِدَّةُ لَا تَخْتَصُّ بِالطَّلَاقِ لِثُبُوتِهَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ إذْ أَعْتَقَتْ وَيُجَابُ بِأَنَّ ثُبُوتَهَا فِيمَا ذَكَرَ لِوُجُودِ سَبَبِ ثُبُوتِهَا فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ الِاسْتِبْرَاءُ لَا بِالْأَصَالَةِ وَهُوَ غَيْرُ دَافِعِ سُؤَالِ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ (وَاعْلَمْ) أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ كَوْنُهَا مَجَازًا عَنْ كُونِي طَالِقًا فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا يَجِبُ كَوْنُ اسْتَبْرِئِي كَذَلِكَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً

وَمَا فِي النَّوَادِرِ مِنْ أَنَّ وُقُوعَ الرَّجْعِيِّ بِهَا اسْتِحْسَانٌ لِحَدِيثِ سَوْدَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا «اعْتَدِّي ثُمَّ رَاجَعَهَا» وَالْقِيَاسُ أَنْ يَقَعَ الْبَائِنُ كَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ بَعِيدٌ بَلْ ثُبُوتُ الرَّجْعِيِّ بِهَا قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الْبَيْنُونَةِ فِي غَيْرِ الثَّلَاثَةِ مُنْتَفِيَةٌ فِيهَا فَلَا يَتَّجِهُ الْقِيَاسُ أَصْلًا نَعَمْ الِاعْتِدَادُ يَقْتَضِي فُرْقَةً بَعْدَ الدُّخُولِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ رَجْعِيٍّ وَبَائِنٍ لَكِنْ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَعَيُّنَ الْبَائِنِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْأَخَفُّ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّائِدِ عَلَيْهِ اهـ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (قَوْلُهُ لِيُطَلِّقَهَا) أَيْ فِي حَالِ فَرَاغِ رَحِمِهَا اهـ. (قَوْلُهُ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِدُونِ الْقَرِينَةِ) وَلَا يَخْفَى أَيْضًا أَنَّهَا قَبْلَ الدُّخُولِ مَجَازٌ عَنْ كُونِي طَالِقًا كَاعْتَدِّي، وَكَذَا فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ. اهـ. فَتْحٌ (قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً) أَيْ فَإِذَا نَوَاهُ فَكَأَنَّهُ قَالَهُ يَعْنِي إذَا نَوَاهُ مَعَ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فَكَأَنَّهُ قَالَهُ لِظُهُورِ أَنَّ مُجَرَّدَ نِيَّةِ الطَّلَاقِ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ. اهـ. كَمَالٌ. (قَوْلُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا) أَيْ بِالرَّفْعِ اهـ قَالَ الْكَمَالُ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ مُقْتَضًى كَمَا هُوَ فِي اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ شَرْعًا بِهَا فَهُوَ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً وَمُضْمَرٌ فِي وَاحِدَةٍ، وَلَوْ كَانَ مُظْهَرًا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً فَإِذَا كَانَ مُضْمَرًا وَأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَقَعَ إلَّا وَاحِدَةً وَفِي وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمَصْدَرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ صِفَتِهِ لَكِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَاحِدَةِ يَمْنَعُ إرَادَةَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهَا صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَحْدُودِ بِالْهَاءِ فَلَا يَتَجَاوَزُ الْوَاحِدَةَ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>