للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَى النِّيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهَا صَرَائِحُ فِيهِ وَتَكُونُ مُطْلَقَةً لِعَدَمِ تَقْيِيدِهِ عَلَى صِفَةٍ فَحَاصِلُهُ أَنَّ أَلْفَاظَهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا أَنْ يُصَرِّحَ بِالتَّدْبِيرِ بِأَنْ يَقُولَ دَبَّرْتُك أَوْ يُضِيفُ الْحُرِّيَّةَ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ أَنْتِ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي يَصِيرُ مُدَبَّرًا لِلْحَالِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ اسْمٌ لِمَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي

وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ التَّعْلِيقِ كَقَوْلِهِ إنْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْقُرْآنِ بِالْمَوْتِ أَوْ التَّعْلِيقِ بِهِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ بِأَنْ قَالَ أَوْصَيْت لَك بِرَقَبَتِك أَوْ بِعِتْقِك لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَصِيَّةً بِالْعِتْقِ وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ فَكَانَ مُوصٍ لَهُ بِثُلُثِ رَقَبَتِهِ وَهُوَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتَمْلِيكُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ بَيْعُهُ وَغَيْرُهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ «رَجُلًا أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ فَاحْتَاجَ فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِكَذَا وَكَذَا فَدَفَعَهُ إلَيْهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ «كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَبَاعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ فَقَالَ لَهُ اقْضِ دَيْنَك وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ» وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ التَّمْلِيكِ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوطِ وَكَالْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ حَتَّى يَصِحَّ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ وَيُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَمْنَعُ الْمُوصِيَ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَنَا رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» احْتَجَّ بِهِ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَرَوَى أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَدَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ فِي مَلَأِ خَيْرِ الْقُرُونِ وَهُمْ حُضُورٌ مُتَوَافِرُونَ وَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ أَنَّ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّهُ وُجِدَ فِيهِ سَبَبُ الْعِتْقِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَهَذَا لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِهَذَا الْكَلَامِ لَا بِكَلَامٍ آخَرَ فَجَعْلُهُ سَبَبًا لِلْحَالِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ سَبَبًا بَعْدَ الْمَوْتِ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي الْحَالِ وَزَوَالِهَا بِهَذَا الْمَوْتِ

وَلَا يُقَالُ إنَّهَا مَوْجُودَةٌ حُكْمًا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا قُلْنَا فِي رَجُلٍ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِالشَّرْطِ فَوُجِدَ الشَّرْطُ وَهُوَ مَجْنُونٌ لِأَنَّا نَقُولُ الشَّيْءُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَوْجُودًا حُكْمًا إذَا أَمْكَنَ وُجُودُهُ حَقِيقَةً وَلَا إمْكَانَ هُنَا لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْفِعْلِ مِنْ الْمَيِّتِ وَلِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا حَكَمَ الشَّرْعُ بِمَوْتِهِ وَمَتَى حَكَمَ بِمَوْتِهِ اسْتَحَالَ أَنْ يُحْكَمَ بِحَيَاتِهِ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّنَاقُضِ بِخِلَافِ مَا إذَا جُنَّ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ قَرِيبُهُ بِالْمِلْكِ وَيُمْكِنُ وُجُودُ الشَّرْطِ وَهُوَ أَهْلٌ أَيْضًا فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ حُكْمًا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ سَبَبًا بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ حَالَ زَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ فَكَانَ سَبَبًا فِي الْحَالِ وَأَخَّرْنَا الْحُكْمَ مَعَ انْعِقَادِ السَّبَبِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ إلَّا أَنَّهُ وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْ السَّبَبِيَّةِ وَهُوَ انْعِقَادُهُ يَمِينًا وَالْيَمِينُ تَصَرُّفٌ آخَرُ يَمْنَعُ الْحُكْمَ لِأَنَّهُ يُعْقَدُ لِلْمَنْعِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ وَالْمَانِعُ مِنْ الشَّرْطِ مَانِعٌ مِنْ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ فَيُضَادُّ وُقُوعَ الْجَزَاءِ وَضِدُّ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لَهُ لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إلَى الْمُسَبَّبِ فَمَا ظَنُّك إذَا كَانَ مُنَافِيًا لَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا إذَا انْتَقَضَ الْيَمِينُ بِالْحِنْثِ وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِبَقَاءِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ وَهَا هُنَا لَمْ يَنْعَقِدْ تَصَرُّفًا آخَرَ فِي الْحَالِ فَبَقِيَ سَبَبًا فِي الْحَالِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ لَا تَقْبَلُ الْإِبْطَالَ فَكَذَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَسَبَبُهَا كَالِاسْتِيلَادِ وَلِأَنَّهُ وَصِيَّةُ إثْبَاتِ الْخِلَافَةِ فِي مِلْكِهِ لِلْمُوصَى لَهُ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَارِثِ فَاعْتُبِرَ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِإِثْبَاتِ الْخِلَافَةِ كَالْقَرَابَةِ وَمَا رَوَاهُ حِكَايَةُ حَالٍ فَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ مُدَبَّرًا مُقَيَّدًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَاعَ مَنْفَعَتَهُ بِأَنْ آجَرَهُ وَالْإِجَارَةُ تُسَمَّى بَيْعًا

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ بِأَنْ قَالَ أَوْصَيْت لَك بِرَقَبَتِك) قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٌ الْأَقْطَعُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ وَقَدْ قَالُوا لَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ إنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَعْتِقْ رَوَاهُ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنْ السُّدُسِ

فَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِسُدُسِ مَالِهِ دَخَلَ سُدُسُ رَقَبَتِهِ فِي الْوَصِيَّةِ فَاسْتَحَقَّ عِتْقَ جُزْءٍ مِنْهَا وَهُوَ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ فَكَانَ مُدَبَّرًا وَإِذَا أَوْصَى بِجُزْءٍ فَالْخِيَارُ إلَى الْوَرَثَةِ وَلَهُمْ أَنْ يُعَيِّنُوا ذَلِكَ فِيمَا شَاءُوا فَلَمْ تَتَضَمَّنْ الْوَصِيَّةُ الرَّقَبَةَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَكُنْ مُدَبَّرًا. اهـ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ فَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ) قَالَ فِي الْهِدَايَةِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إلَّا إلَى الْحُرِّيَّةِ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ. اهـ. (اعْلَمْ) أَنَّ الْمُدَبَّرَ الْمُقَيَّدَ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَنَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ وَمَذْهَبُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ كَذَلِكَ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ بَيْعُهُ) وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ إنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ غُلَامًا) وَاسْمُهُ يَعْقُوبُ. اهـ. (قَوْلُهُ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) ابْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِمِائَةٍ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِسَبْعِمِائَةٍ أَوْ تِسْعِمِائَةٍ اهـ أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوطِ) كَدُخُولِ الدَّارِ وَمَجِيءُ رَأْسِ الشَّهْرِ. اهـ. (قَوْلُهُ حَتَّى يَصِحَّ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ إلَخْ) وَسَائِرُ الْوَصَايَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ حَتَّى يَجُوزَ الرُّجُوعُ عَنْهَا صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً فَكَذَا هَذِهِ الْوَصِيَّةُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهَا. اهـ. أَتْقَانِيٌّ

(قَوْلُهُ فَكَانَ سَبَبًا فِي الْحَالِ) قَالَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ قُبَيْلَ بَابِ عِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ بِقَوْلِهِ وَفِي الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَذَاكَ تَنَاقُضٌ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ اهـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ سَبَبًا فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ فَإِذَا مَاتَ فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ سَبَبًا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ (قَوْلُهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَاعَ مَنْفَعَتَهُ) يَعْنِي لَا رَقَبَتَهُ تَوْفِيقًا بَيْنَ حَدِيثِنَا وَحَدِيثِهِ. اهـ. أَتْقَانِيٌّ

<<  <  ج: ص:  >  >>