للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ قَوِيٍّ بِهَا عَزْمُ الْحَالِفِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهَا لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ تَتَقَوَّى بِهَا وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ وَأَمَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَسَمِ فَقَالَ تَعَالَى {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: ٥٣] وَلِأَنَّ فِيهَا تَعْظِيمَ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لِأَنَّ مَنْ أَقْسَمَ بِشَيْءٍ فَقَدْ عَظَّمَهُ «وَأَقْسَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا» وَالصَّحَابَةُ كَانُوا يُقْسِمُونَ فَكَانَتْ ثَابِتَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ

وَالْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا مَشْرُوعٌ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ وَهُوَ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَضْعًا وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَمِينًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِحُصُولِ مَعْنَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَهُوَ الْحَمْلُ أَوْ الْمَنْعُ وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُكْرَهُ وَتَقْلِيلُهُ أَوْلَى مِنْ تَكْثِيرِهِ وَالْيَمِينُ بِغَيْرِهِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْبَعْضِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِيهِ وَعِنْدَ عَامَّتِهِمْ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا الْوَثِيقَةُ لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا وَمَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْوَثِيقَةِ كَقَوْلِهِمْ بِأَبِيك وَلَعَمْرُك وَنَحْوِهِ، وَرُكْنُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ اسْمِهِ أَوْ صِفَتِهِ وَبِغَيْرِهِ ذِكْرُ شَرْطٍ صَالِحٍ وَجَزَاءٍ صَالِحٍ

وَصَلَاحِيَّةُ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ وَصَلَاحِيَّةُ الْجَزَاءِ أَنْ يَكُونَ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِيَتَحَقَّقَ الْحَمْلُ أَوْ الْمَنْعُ وَقَدْ يَكُونُ مُتَحَقِّقَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالتَّعْلِيقِ بِالْمِلْكِ وَسَبَبُهُ وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْبِرِّ أَصْلًا وَالْكَفَّارَةِ خَلَفًا وَشَرْطُ انْعِقَادِهَا تَصَوُّرُ الْبِرِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ غَمُوسٌ وَلَغْوٌ وَمُنْعَقِدَةٌ عَلَى مَا يَجِيءُ بَيَانُهُ وَدَلِيلُ الْحَصْرِ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ أَوْ لَا فَالثَّانِي لَغْوٌ وَالْأَوَّلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُؤَاخَذَةُ دُنْيَوِيَّةً أَوْ عُقُوبَةً فَالْأَوَّلُ الْمُنْعَقِدَةُ وَالثَّانِي الْغَمُوسُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (حَلِفُهُ عَلَى مَاضٍ كَذِبًا عَمَدًا غَمُوسٌ وَظَنًّا لَغْوٌ) أَيْ إذَا حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ قَدْ مَضَى وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ فَإِنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ فَهُوَ غَمُوسٌ وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ فَهُوَ لَغْوٌ وَيَتَأَتَّيَانِ فِي الْحَالِ أَيْضًا سُمِّيَتْ الْأُولَى غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الذَّنْبِ ثُمَّ فِي النَّارِ وَسُمِّيَتْ الثَّانِيَةُ لَغْوًا لِأَنَّهَا لَا اعْتِبَارَ بِهَا وَاللَّغْوُ اسْمٌ لِمَا لَا يُفِيدُ يُقَالُ لَغَا إذَا أَتَى بِشَيْءٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَكِلَاهُمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْيَمِينِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنُّذُورِ بِأَمْرٍ كَائِنٍ فِي الْمَاضِي لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ اللَّغْوُ وَلَا الْغَمُوسُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ بِهِ

وَكَذَا الْعَتَاقُ وَالنُّذُورُ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا وَقْتَ الْيَمِينِ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَأَثِمَ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ) يَعْنِي يَأْثَمُ فِي الْغَمُوسِ وَلَا يَأْثَمُ فِي اللَّغْوِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

( قَوْلُهُ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ) أَيْ الْقُوَّةِ اهـ (قَوْلُهُ وَالْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى) نَحْوُ قَوْلِك إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ. اهـ. (قَوْلُهُ وَهُوَ الْحَمْلُ أَوْ الْمَنْعُ) أَيْ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. اهـ. (قَوْلُهُ وَالْيَمِينُ بِغَيْرِهِ مَكْرُوهٌ) قَالَ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ يُكْرَهُ الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ» الْحَدِيثُ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ لِمَنْعِ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَمَحَلُّ الْحَدِيثِ غَيْرُ التَّعْلِيقِ مِمَّا هُوَ بِحَرْفِ الْقَسَمِ. اهـ. (قَوْلُهُ لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا) أَيْ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِقِلَّةِ مُبَالَاةٍ ظَهَرَتْ فِي النَّاسِ فَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْوَثِيقَةِ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ. اهـ. كَافِي

(قَوْلُهُ كَالتَّعْلِيقِ بِالْمِلْكِ وَسَبَبِهِ) وَأَمَّا شُرُوطُهَا فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ. اهـ. كَمَالٌ (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ حَلِفُهُ عَلَى مَاضٍ) قَالَ الْكَمَالُ وَلَيْسَ هَذَا بِقَيْدِ الْحَلِفِ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا كَوَاللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ دَيْنٌ وَهُوَ يَعْلَمُ خِلَافَهُ وَقَالَ الْأَتْقَانِيُّ اعْلَمْ أَنَّ يَمِينَ الْغَمُوسِ مَا يُتَعَمَّدُ فِيهِ الْكَذِبُ عَلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ أَوْ نَفْيِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَاضِيًا أَوْ حَالًا نَظِيرُ الْمَاضِي قَوْلُ الرَّجُلِ وَاَللَّهِ مَا فَعَلْت ذَلِكَ الْأَمْرَ وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ فَعَلَهُ وَنَظِيرُ الْحَالِ قَوْلُهُ وَاَللَّهُ إنَّهُ زَيْدٌ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ عَمْرٌو وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ وَمَا وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْغَمُوسِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ بِأَنَّهُ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يُتَعَمَّدُ فِيهِ الْكَذِبُ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْغَالِبِ لَا أَنَّ الْمَاضِيَ شَرْطُهُ وَلِهَذَا صَرَّحَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْغَمُوسَ يَتَحَقَّقُ فِي الْحَالِ أَيْضًا وَقَالَ فِي شَرْحِ الْكَافِي الْيَمِينُ لَيْسَتْ مِنْهُنَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ وَهَذِهِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ وَالْكَبِيرَةُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ وَلَكِنْ سَمَّاهُ يَمِينًا مَجَازًا لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْكَبِيرَةُ بِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْعَ الْحُرِّ بَيْعًا مَجَازًا لِأَنَّ ارْتِكَابَ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ بِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ ثُمَّ إيمَانًا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ لِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ اهـ

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ غَمُوسٌ) قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ اسْمُ فَاعِلٍ لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ لِأَنَّهُ حَلَفَ كَاذِبًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ. اهـ. (قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ لَغْوٌ) قَالَ الرَّازِيّ وَلَغْوٌ وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُضِيِّ أَوْ الْحَالِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ فَعَلْت كَذَلِكَ وَمَا فَعَلَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ فَعَلَ أَوْ رَأَى شَخْصًا مِنْ بَعِيدٍ فَقَالَ وَاَللَّهِ إنَّهُ لَزَيْدٌ يَظُنُّهُ زَيْدًا وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ اهـ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَيَمِينُ اللَّغْوِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَهَذَا الْيَمِينُ يَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِثْلُ مَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ مُتَوَهِّمًا أَنَّهُ فِيهِ صَادِقٌ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَقَدْ دَخَلْت الدَّارَ وَاَللَّهِ مَا كَلَّمْت زَيْدًا وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ أَوْ رَأَى طَائِرًا مِنْ بَعِيدٍ فَظَنَّهُ غُرَابًا فَقَالَ وَاَللَّهِ إنَّهُ غُرَابٌ فَإِذَا هُوَ حَمَامٌ اهـ

(قَوْلُهُ وَلَا يَأْثَمُ فِي اللَّغْوِ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ثُمَّ يَمِينُ اللَّغْوِ لَا حُكْمَ لَهَا أَصْلًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمْ بِلَغْوِ الْيَمِينِ الَّذِي يَحْلِفُهُ أَحَدُكُمْ بِالظَّنِّ هَذَا عَلَى مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُكُمْ الْكَفَّارَةُ بِلَغْوِ الْيَمِينِ الَّذِي لَا قَصْدَ مَعَهُ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>