للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَوْله تَعَالَى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: ٨٩] وَلَا يُتَصَوَّرُ الْحِفْظُ عَنْ الْحِنْثِ وَالْهَتْكُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ بِمَا عَقَدْتُمْ الْأَيْمَانَ وَالْعَقْدُ يَقْتَضِي ارْتِبَاطَ الْكَلَامِ بِالْكَلَامِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا حُكْمٌ فَيَصِيرُ عَقْدًا شَرْعِيًّا كَسَائِرِ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: ٩١] وَالنَّقْضُ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ وَهَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَقَوْلُهُ وَفِيهِ كَفَّارَةٌ فَقَطْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَقَطْ لِأَنَّ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ إثْمًا أَيْضًا وَلَفْظُ الْكَفَّارَةِ يُنْبِئُ عَنْهُ لِأَنَّ مَعْنَاهَا السَّتَّارَةُ وَهِيَ لَا تَجِبُ إلَّا لِرَفْعِ الْمَأْثَمِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا) يَعْنِي تَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ وَلَوْ كَانَ حَلَفَ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ وَعَدَّ مِنْهَا الْيَمِينَ» وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ

وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِي الْمُخْطِئُ كَمَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ اسْقِنِي الْمَاءَ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ وَذَكَرَ فِي الْكَافِي أَنَّهُ الْمَذْهُولُ عَنْ التَّلَفُّظِ بِهِ كَأَنْ قِيلَ لَهُ أَلَا تَأْتِينَا فَقَالَ بَلَى وَاَللَّهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْيَمِينِ وَإِنَّمَا أَلْجَأَنَا إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ النِّسْيَانِ فِي الْيَمِينِ لَا تُتَصَوَّرُ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَوْ حَنِثَ كَذَلِكَ) أَيْ أَوْ حَنِثَ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا تَقْدِيرُهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَلَوْ كَانَ حَلَفَ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ حَنِثَ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا بِأَنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا لِأَنَّ الْفِعْلَ حَقِيقَةً لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ وَالنِّسْيَانِ وَتَحَقُّقُ الْفِعْلِ مِنْهُ هُوَ الشَّرْطُ وَالْحِنْثُ نَاسِيًا مُتَصَوَّرٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّأْوِيلِ وَكَذَا لَوْ فَعَلَهُ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَتْ الْحِكْمَةُ رَفْعَ الذَّنْبِ فَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِهِ وَهُوَ الْحِنْثُ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الذَّنْبِ كَمَا أُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى السَّفَرِ لَا حَقِيقَةِ الْمَشَقَّةِ

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَعِزَّتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَأُقْسِمُ وَأَحْلِفُ وَأَشْهَدُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ وَلَعَمْرُ اللَّه وَأَيْمِ اللَّهِ وَعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ وَعَلَيَّ نَذْرٌ وَنَذْرُ اللَّهِ وَإِنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ) أَيْ الْيَمِينُ تَكُونُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا مُتَعَارَفٌ وَمَعْنَى الْيَمِينِ هُوَ الْقُوَّةُ حَاصِلٌ بِهَا أَمَّا الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ الرَّحْمَنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَصَلَحَ ذِكْرُهُ حَامِلًا أَوْ مَانِعًا سَوَاءٌ تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ أَوْ لَمْ يَتَعَارَفُوا فِي الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى ثَبَتَ نَصًّا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْحَلِفُ بِسَائِرِ أَسْمَائِهِ حَلِفٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْ بِدَلَالَتِهِ لَا يُرَاعَى فِيهِ الْعُرْفُ وَكَذَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى النِّيَّةِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَقَّ أَوْ غَيْرَهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا كُلُّ اسْمٍ لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ فَهُوَ يَمِينٌ مُطْلَقًا

وَمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَكِيمِ وَالْحَلِيمِ وَالْعَلِيمِ وَالْقَادِرِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ اللَّهَ كَانَ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ الْمُحَرَّمَ وَأَنَّ مَنْ قَصَدَهُ يَمِينًا صَحِيحَةً فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَنْوِ خِلَافَ ذَلِكَ فَإِنْ نَوَى خِلَافَهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ، هَذَا إذَا حَلَفَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا إذَا حَلَفَ بِصِفَاتِهِ كَعِزَّةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَعَارَفًا بِأَنْ كَانَ يَحْلِفُ بِهِ عَادَةً يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا فَلَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ حَلَفَ بِصِفَاتِ الذَّاتِ يَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ حَلَفَ بِصِفَاتِ الْفِعْلِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُمْ أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ جَازَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَبِضِدِّهِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ كَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَالسَّخَطِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَنْعِ وَالْإِعْطَاءِ وَكُلِّ مَا جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِهِ لَا بِضِدِّهِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ كَعِزَّةِ اللَّهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

قَوْلُهُ «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ». اهـ. هِدَايَةٌ

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) {فَرْعٌ} رَجُلٌ قَالَ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ لَا أَفْعَلُ كَذَا فَفَعَلَ فِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ وَيَتَعَدَّدُ الْيَمِينُ بِتَعَدُّدِ الِاسْمِ إذَا لَمْ يَجْعَلْ الثَّانِيَ نَعْتًا لِلْأَوَّلِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ لِأَنَّ الْوَاوَ بَيْنَ الِاسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَبَيْنَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَاوُ الْقَسَمِ لَا وَاوُ الْعَطْفِ فَلَمْ يَتَّصِلْ الثَّانِي بِالْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي بِالثَّالِثِ وَإِذَا ذَكَرَ الْخَبَرَ عَقِيبَ الثَّالِثِ اقْتَصَرَ الْخَبَرُ عَلَى الثَّالِثِ وَكَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ

وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ كَذَا فَفَعَلَ يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ فِي قَوْلِهِمْ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا تَعَدَّدَ الْيَمِينُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ فِي الِاسْمِ الْوَاحِدِ لَا تَتَعَدَّدُ الْيَمِينُ وَيُحْمَلُ الثَّانِي عَلَى التَّأْكِيدِ وَالتَّكْرَارُ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ ثُمَّ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا مَرَّةً يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ قَالَ فِي مَجْلِسِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَقَرِبَهَا مَرَّةً يَلْزَمُهُ كَفَّارَتَانِ وَحُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ أَنَّهُ قَالَ إذَا قَالَ الرَّجُلُ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ مَرَّةً إنْ نَوَى بِالثَّانِي التَّكْرَارَ وَالتَّأْكِيدَ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الِاسْمَ الثَّانِيَ نَعْتًا لِلْأَوَّلِ فَكَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ الْعَزِيزِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَلَوْ قَالَ بِاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَسَكَّنَ الْهَاءَ أَوْ نَصَبَهَا أَوْ رَفَعَهَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِحَرْفِ الْقَسَمِ وَالْخَطَأُ فِي الْإِعْرَابِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْيَمِينِ وَلَوْ قَالَ اللَّهَ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَسَكَّنَ الْهَاءَ أَوْ نَصَبَهَا لَا يَكُونُ يَمِينًا لِانْعِدَامِ حَرْفِ الْقَسَمِ إلَّا أَنْ يُعَرِّبَهَا بِالْكَسْرِ فَيَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْكَسْرَ يَقْتَضِي سَبْقَ حَرْفِ الْخَافِضِ وَهُوَ حَرْفُ الْقَسَمِ. اهـ. قَاضِي خَانْ

(قَوْلُهُ وَإِنْ حَلَفَ بِصِفَاتِ الْفِعْلِ لَا يَكُونُ يَمِينًا) وَالْمُرَادُ بِالِاسْمِ هَاهُنَا لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَةٍ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَبِالصِّفَةِ الْمَصَادِرُ الَّتِي تَحْصُلُ عَنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَاءِ فَاعِلِهَا كَالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعِزَّةِ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>