للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥]، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا وَكَانُوا يَتَبَايَعُونَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ»، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِهِ وَأَنَّهُ أَحَدُ أَسْبَاب الْمِلْكِ، قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَيَلْزَمُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُ بِهِ بَلْ لَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» إذْ هُمَا مُتَبَايِعَانِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَهُ مُتَسَاوِمَانِ، وَلَنَا أَنَّ الْعَقْدَ تَمَّ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَدَخَلَ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْفَسْخُ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّرَاضِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْآخَرِ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ.

وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ فَإِنَّهُ إذَا أَوْجَبَ أَحَدَهُمَا فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارُ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَأْخُذَا فِي عَمَلٍ آخَرَ وَفِي لَفْظِهِ إشَارَةٌ إلَيْهِ فَإِنَّهُمَا مُتَبَايِعَانِ حَالَةَ الْبَيْعِ حَقِيقَةً، وَمَا بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ مَجَازًا كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ مِثْلُ الْمُتَجَاذِبِينَ وَالْمُتَضَارَبِينَ فَيَكُونُ التَّفَرُّقُ عَلَى هَذَا بِالْأَقْوَالِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: ١٣٠] لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِقَبُولِهَا هَذَا تَأْوِيلُ مُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ بَعْدَ الْإِيجَابِ قَبْلَ الْقَبُولِ وَقَالَ عِيسَى هَذَا أَوْلَى لِمَا عَهِدْنَا فِي الشَّرْعِ أَنَّ الْفُرْقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْفَسَادِ كَمَا فِي الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا ذَكَرُوهُ يُوجِبُ التَّمَامَ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى لِكَوْنِهِ مُرَادًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ وَيُفَارِقُهُ خُطُوَاتٌ خَشْيَةَ التَّرَادِّ تَأْوِيلٌ مِنْهُ، وَتَأْوِيلُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا لَا يَكُونُ حُجَّةً أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ لِقَطْعِ الِاحْتِمَالِ حَتَّى لَا يَحْتَجَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِذَلِكَ فَيَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ بِيَقِينٍ احْتِيَاطًا؛ لِئَلَّا يَحْمِلَهُ مُخَالِفُهُ عَلَيْهِ لَا؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ مَا أَدْرَكْت الصَّفْقَةَ حَيًّا فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُبْتَاعِ أَيْ إذَا هَلَكَ بَعْدَهَا، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ» مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إذْ هُمَا مُتَبَايِعَانِ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَقِيقَةَ فِيهِ حَالَةُ الْبَيْعِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَمَّاهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ لِقُرْبِهِمَا مِنْ الْبَيْعِ كَمَا سَمَّى الْعَصِيرَ خَمْرًا وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَبِيحًا.

وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ خِيَارُ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْخِيَارُ لَلَزِمَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْآخَرِ وَلَدَخَلَ فِي مِلْكِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي وُسْعِ الْمُوجِبِ وَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَى الْأَصِيلُ الدَّيْنَ لِلْكَفِيلِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْكَفِيلُ أَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى السَّاعِي قَبْلَ الْحَوْلِ حَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يَرْجِعَا فِيهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْكَفِيلِ

ــ

[حاشية الشِّلْبِيِّ]

الِاشْتِرَاكِ قَالَ تَعَالَى {وَشَرَوْهُ} [يوسف: ٢٠] أَيْ بَاعُوهُ إلَّا أَنَّ فِي الْعُرْفِ اخْتَصَّ لَفْظُ الْبَيْعِ بِالْبَائِعِ وَلَفْظُ الشِّرَاءِ وَالِاشْتِرَاءِ وَالِابْتِيَاعِ بِالْمُشْتَرِي اهـ.

وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ وَكُلٌّ مِنْ عِوَضَيْهِ مَالٌ مَلَكَ الْمَبِيعَ بِقِيمَتِهِ قَالَ الشَّارِحُ وَشَرْطٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَالٌ لِيَتَحَقَّقَ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ لِيَخْرُجَ عَنْهُ الْبَيْعُ بِالْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِ وَالْبَيْعُ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ فِي رِوَايَةٍ اهـ.

(قَوْلُهُ: وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ) فِي السُّنَنِ مُسْنَدًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ». اهـ. أَتْقَانِيٌّ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَيَلْزَمُ) أَيْ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ انْعِقَادًا لَازِمًا. اهـ. عَيْنِيٌّ.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: بِإِيجَابٍ) وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْإِثْبَاتُ وَفِي الْفِقْهِ مَا يُذْكَرُ أَوَّلًا مِنْ كَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ خِيَارُ الْقَبُولِ لِلْآخَرِ انْتَهَى شُمُنِّيٌّ وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ بِإِيجَابٍ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْإِيجَابُ عِبَارَةٌ عَمَّا صَدَرَ عَنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوَّلًا سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ نَقِيضُ السَّلْبِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ وَالْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمَا أَوَّلًا بِقَوْلِهِ بِعْت أَوْ اشْتَرَيْت يُرِيدُ إثْبَاتَ الْعَقْدِ بِشَرْطِ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ قَوْلَ الْآخَرِ أَوْ سُمِّيَ بِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ بِعْت وَاشْتَرَيْت فِعْلٌ وَالْفِعْلُ صَرْفُ الْمُمْكِنِ مِنْ الْإِمْكَانِ إلَى الْوُجُودِ فَكَانَ قَوْلُهُ بِعْت أَوْ اشْتَرَيْت إيجَابًا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِهِ كَانَ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ فَصَارَ بَعْدَ التَّلَفُّظِ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِغَيْرِهِ ثُمَّ سُمِّيَ كَلَامُ الْآخَرِ قَبُولًا لِمَا أَوْجَبَهُ الْآخَرُ وَإِنْ كَانَ هُوَ إيجَابًا فِي الْحَقِيقَةِ حَتَّى يَمْتَازَ السَّابِقُ مِنْ كَلَامِ الْعَاقِدِ مِنْ اللَّاحِقِ اهـ وَكَتَبَ عَلَيْهِ أَيْضًا قَالَ الْكَمَالُ وَالْإِيجَابُ لُغَةً الْإِثْبَاتُ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَالْمُرَادُ هُنَا إثْبَاتُ الْفِعْلِ الْخَاصِّ الدَّالِّ عَلَى الرِّضَا الْوَاقِعِ أَوَّلًا سَوَاءٌ وَقَعَ مِنْ الْبَائِعِ كَبِعْتُ أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي كَأَنْ يَبْتَدِئَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ: اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا بِأَلْفٍ وَالْقَبُولُ الْفِعْلُ الثَّانِي وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنْهُمَا إيجَابٌ أَيْ إثْبَاتٌ فَسُمِّيَ الْإِثْبَاتُ الثَّانِي بِالْقَبُولِ تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ الْإِثْبَاتِ الْأَوَّلِ وَلِأَنَّهُ يَقَعُ قَبُولًا وَرِضًا بِفِعْلِ الْأَوَّلِ وَحَيْثُ لَمْ يَصِحَّ إرَادَةُ اللَّفْظَيْنِ بِالْبَيْعِ بَلْ حُكْمُهُمَا وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْبَدَلَيْنِ وَجَبَ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ يَنْعَقِدُ يَثْبُتُ أَيْ الْحُكْمُ فَإِنَّ الِانْعِقَادَ إنَّمَا هُوَ لِلَّفْظَيْنِ لَا لِلْمِلْكِ أَيْ انْضِمَامُ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ، وَقَوْلُهُ فِي الْقَبُولِ: إنَّهُ الْفِعْلُ الثَّانِي يُفِيدُ كَوْنَهُ أَعَمَّ وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ الْفُرُوعِ مَا لَوْ قَالَ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ بِدِرْهَمٍ فَأَكَلَهُ تَمَّ الْبَيْعُ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ وَالرُّكُوبُ وَاللُّبْسُ بَعْدَ قَوْلِ الْبَائِعِ ارْكَبْهَا بِمِائَةٍ وَالْبَسْهُ بِكَذَا رِضًا بِالْبَيْعِ، وَكَذَا إذَا قَالَ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ فَقَبَضَهُ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا كَانَ قَبْضُهُ قَبُولًا بِخِلَافِ بَيْعِ التَّعَاطِي فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ قَبْضٍ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ فَقَطْ وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ فَفِي جَعْلِهِ مَسْأَلَةَ الْقَبْضِ بَعْدَ قَوْلِهِ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ مِنْ صُوَرِ التَّعَاطِي كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُهُمْ نَظَرٌ وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا بِكَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ فَفَعَلَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ وَكَذَلِكَ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا فَاقْطَعْهُ لِي قَمِيصًا فَقَطَعَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ انْتَهَى مَا قَالَهُ الْكَمَالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

(قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ: وَقَبُولُ) أَيْ وَهُوَ مَا يُذْكَرُ آخِرًا مِنْ كَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ. اهـ. شُمُنِّيٌّ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِقَبُولِهَا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا بِالْأَبْدَانِ انْتَهَى.

(قَوْلُهُ: وَمَا ذَكَرُوهُ يُوجِبُ التَّمَامَ) أَيْ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ التَّفَرُّقُ بِالْأَقْوَالِ اهـ

<<  <  ج: ص:  >  >>