وفرقة تعرف الخالق فتنزهه أن تنسب إليه المكاره فتضيفها إلى الدهر والزمان وعلى هذين الوجهين كانوا يسبون الدهر ويذمونه فيقول القائل منهم ياخيبة الدهر ويابؤس الدهر إلى ما أشبه هذا من قولهم فقال صلى الله عليه وسلم:{لاتسبوا الدهر} على أنه الفاعل لهذا الصنيع بكم فإن الله هو الفاعل له فإذا سببتم الذي أنزل بكم المكاره رجع السب إلى الله تعالى عن ذلك، وانصرف إليه فإنه مالك الدهر ومصرفه فحذف اختصاراً لللفظ واتساعاً في المعنى وليس الدهر هو الله؛ لأن الدهر مخلوق له وهو يقلبه ويصرفه والتقدير: أن ابن آدم يسب من فعل هذه الأمور وأنا فعلتها فإذا سب الدهر فمقصوده سب الفاعل وإن أضاف الفعل إلى الدهر فالدهر لافعل له وإنما الفاعل هو الله وحده والزمان لايفعل شيئاً.
(٢) قول نعيم بن حماد وطائفة معه من أهل الحديث والصوفية، واختاره ابن حزم ومن نحا نحوه: أن الدهر من أسماء الله ومعناه القديم الأزلي، والله سبحانه هو الأول ليس قبله شيء وهو الآخر ليس بعده شيء فهذا المعنى صحيح إنما النزاع في كونه يسمى دهراً بكل حال فقد أجمع المسلمون وهو مما علم بالعقل الصريح أن الله سبحانه وتعالى ليس هو الدهر الذي هو الزمان أو ما يجري مجراه فإن الناس متفقون على أن الزمان هو الليل والنهار، وقد بين الحديث أنه ليس المراد به أنه الزمان فإنه قد أخبر أنه يقلب الليل والنهار والزمان هو الليل والنهار فدل الحديث على أنه سبحانه يقلب الزمان ويصرفه، ولايتوهم عاقل أن الله هو الزمان؛ لأن الزمان مقدار الحركة ومقدارها من باب الأعراض والصفات القائمة بغيرها كالحركة والسكون، ولايقول عاقل: إن خالق العالم هو من باب الأعراض والصفات المفتقرة إلى الجواهر والأعيان، فإن الأعراض لاتقوم بنفسها بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به، والمتفقر إلى ما يغايره لايوجد بنفسه بل بذلك الغير فهو محتاج إلى غيره فكيف يكون
هو الخالق! .
(مجموع الفتاوى ٢/ ٤٩١ - ٤٩٤)، (غريب الحديث للخطابي ١/ ٤٨٩، ٤٩٠)، (شرح د ٨/ ١١٨)، (شرح السنة ١٢/ ٣٥٧)، (تأويل مختلف الحديث /٢٠٨، ٢٠٩)، (تفسير ابن كثير ٧/ ٢٥٤).
الفوائد:
(١) فيه النهي عن سب الدهر وتسميته أذى لله وأنه قد يكون ساباً ولولم يقصده بقلبه.
(٢) ان ما يجري في الدهر من خير وشر بإرادة الله وتدبيره بعلم منه تعالى، وحكمة لايشاركه في ذلك غيره ماشاء كان ومالم يشأ لم يكن فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين، وحسن الظن به سبحانه والرجوع إليه بالتوبة والإنابة (فتح المجيد /٦١٧، ٦١٨).
(٣) الحديث صيغته صيغة الخبر ومعناه الزجر والمنع؛ لأنه ممنوع أن يسب العبد مولاه والعابد معبوده فلما كان هذا ممنوعاً عقلاً وشرعاً استغنى بالإخبار عن النهي والمنع وشبهها. (بهجة النفوس ٤/ ١٧٧، ١٧٨)
(٤) أن الله تعالى يتأذى من فعل ابن آدم لكن لايضره شيء تعالى وتقدس (شرح التوحيد ٢/ ٣٥١).
(٥) أن الدهر وهو مرور الزمان لااختيار له ولا مراد ولا يعرف رشداً من ضلال فلا ينبغي أن يلام فإنه زمان مدبر ولا يعقل فصارت نسبة القبائح إلى الله تعالى حيث اعتقدوا قصور حكمته وأن يفعل مالايصلح (شرح التوحيد ١/ ٩٥، ٩٧، ٩٨).