ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فلما تضادّ هذان الحديثان؛ أردنا أن نلتمس حكم هذا الباب من طريق النظر، لنستخرج به من هذين القولين قولًا صحيحًا، فنظرنا في ذلك، فوجدنا الأصل المتفق عليه أنه لا ينبغي أن يؤذن رجلين أذانًا واحدًا، يؤذن كل واحد منهما بعضه، فاحتمل أن يكون الأذان والإقامة كذلك؛ لا يَفْعلهما إلا رجل واحد، واحتمل أن يكونا كالشيئين المقترنين فلا بأس بأن يتولى كل واحد منهما رجلٌ على حدةٍ، فنظرنا في ذلك؛ فرأينا الصلاة لها أسباب تتقدّمها من الدعاء إليها بالأذان، ومن الإقامة لها، هذا في سائر الصلوات، ورأينا الجمعة تتقدمها خطبة لا بدّ منها، فكانت الصلاة متضمنة بالخطبة، وكان مَنْ صلى الجمعة بغير خطبة فصلاته باطلة حتى تكون الخطبة قد تقدمت الصلاة، ورأينا الإِمام لا ينبغي أن يكون هو غير الخطيب؛ لأن كل واحد منهما مضمّن بصاحبه، فكما كان لابدّ منهما؛ لا ينبغي أن يكون القائم بهما إلا رجلًا واحدًا، ورأينا الإقامة جُعلت من أسباب الصلاة أيضًا، وأجمعوا أنه لا بأس أن يتولاها غير الإمام فكما قد كان يتولاها غير الإِمام وهي في الصلاة أقرب منها في الأذن؛ كان لا بأس أنْ يتولاها غير الذي تولى الأذن، فهذا هو النظر وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.
ش: أراد بقوله: "هذان الحديثان": حديث زياد بن الحارث الصدائي، وحديث عبد الله بن زيد الأنصاري.
وجه التضاد بينهما ظاهر لأن حديث الصدائي يقتضي أن لا يقيم الصلاة إلا مَنْ يؤذن لها، وحديث عبد الله بن زيد يقتضي العموم، وهذا إنما يكون على تقدير تسليم صحة حديث الصُدائي، وقد قلنا إنه ضعيف، فلا يساوي حديث عبد الله بن زيد فلا يثبت التعارض؛ لأن من شرط التعارض بين الحديثين أن يكونا متساويَيْن في القوة والضَعْف، ثم إن الذي ذكره الطحاوي ليس يُدفع به التضاد بين المتضادّيَن وإنما هو بيان أن النظر والقياس أيضًا يقتضي بأن لا بأس بإقامة غير المؤذن ووجه ذلك ظاهر.