بالخرص، وما قاله أهل المقالة الأولى: هو أن الخُراص كانوا يُمَلكون أصحاب الثمار الزكوات التي هي حق الله تعالى، ويأخذون عوض ذلك منهم تمرًا، وذلك حينما تكون ثمارهم رطبًا، وكان مثل هذا جائزًا في ذلك الزمان قبل نزول تحريم الربا، فلما أنزل الله تعالى آية الربا، وعلمهم بحرمة الربا انتسخ ذلك الحكم بانتساخ الربا، فصار الأمران لا يؤخذ في الزكوات إلا ما يجوز فعله في البياعات، وفي البياعات لا يجوز بيع الرطب بالتمر نسيئة؛ لكونه ربًا، فكذلك الخرص لا يجوز لأن فيه أخذ التمر عن الرطب نسيئة، وهو عين الربا، والدليل على ذلك حديث جابر - رضي الله عنه - فإنه صرَّح في حديثه أنه - عليه السلام - نهى عن الخرص، والحظر بعد الإباحة علامة النسخ.
وأيضًا قوله - عليه السلام -: "أرأيتم إن هلك الثمر، أيحب أحدكم أن يأكل مال أخيه بالباطل؟ " فدل على أن الخرص ممنوع على الوجه الذي ذكره أهل المقالة الأولى؛ فإنه على تقدير هلاك المال يكون ما أخذوه من أصحابه أخذًا باطلًا وعدوانًا ليس في مقابلة شيء، وهو أشد الربا؛ لأنه أخذ بلا بدل أصلًا.
فإن قيل: حديث جابر هذا ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله بن لهيعة، وقال ابن حزم: أسد بن موسى منكر الحديث، وأحاديث الخرص صحيحة، فكيف تنسخ بهذا الحديث الضعيف؟
قلت: لا نسلم انتساخ الخرص بهذا الحديث، وإنما هو بالآية الكريمة آية الربا.
والحديث من جملة الشواهد على أن كلام ابن حزم في أسد بن موسى مردود؛ لأن البخاري قال: أسد بن موسى صالح مشهور الحديث يقال له أسد السنة، وقال ابن يونس والنسائي: أسد بن موسى ثقة. وأما عبد الله بن لهيعة فإن أحمد قد وثقه وبالغ فيه، وكونه ضعيفًا ليس مجمعًا عليه؛ فإن مثل أحمد إذا رضي به في الحجة أفلا يرضي غيره في الشواهد والمتابعات؟!
ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأينا الزكوات تجب في أشياء مختلفة منها الذهب والفضة، والثمار التي تخرجها الأرض، والنخل والشجر والمواشي السائمة، وكلٌ قد أجمع أن رجلًا لو وجبت عليه زكاة ماله وهو ذهب أو فضة،