للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ص: فإن قال قائل: فإن في حديث ابن عمر الذي ذكرت ما يدل علي نسخ ما كان أباح من ذلك، وهو قوله: "ولا يبكين علي هالك بعد اليوم".

قيل له: ما في ذلك دليل علي ما ذكرت، قد يجوز أن يكون قوله -عليه السلام-: "ولا يبكين علي هالك بعد اليوم" من هلكاهن الذين قد بكين عليهم منذ هلكوا إلي هذا الوقت؛ لأن في ذلك البكاء ما قد أتين به علي ما جلا عنهن حزنهن.

ش: تقرير السؤال أن يقال لأهل المقالة الثانية: كيف تحتجون في إباحة البكاء على الميت بلا صوت بحديث عبد الله بن عمر، وفي حديثه ما يدل علي نسخ ما كان أباح لهم من ذلك وهو قوله: "ولا يبكين علي هالك بعد اليوم"؟ فإنه صريح في المنع عن البكاء، والجواب عنه ظاهر.

ص: وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير البكاء الذي قصد إلى النهي في نهيه عن البكاء على الموتى ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا إسرائيل، عن محمَّد بن عبد الرحمن، عن عطاء، عن جابر بن عبد اللهَ، عن عبد الرحمن ابن عوف قال: "أخذ النبي -عليه السلام- بيدي فانطلقت معه إلى ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فأخذه النبي -عليه السلام- فوضعه في حجره حتى خرجت نفسه، فوضعه ثم بكي، فقلت: يا رسول الله، أتبكي وأنت تنهي عن البكاء؟! فقال: إني لم أنه عن البكاء، ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو، ولعب، ومزامير شيطان -وصوت عن مصيبة- لطم وجوه، وشق جيوب، وهذا رحمة، من لا يَرحم ولا يُرحم، يا إبراهيم لولا أنه وعد صادق وقول حق، وأن آخرنا سيلحق أوَّلنا، لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب".

فأخبر رسول الله -عليه السلام- في هذا الحديث بالبكاء الذي نهى عنه في الأحاديث الأُوَل، وأنه البكاء الذي معه الصوت الشديد ولطم الوجوه وشق الجيوب، وبيَّن أن ما سوى ذلك من البكاء مما فعل من جهة الرحمة أنه بخلاف ذلك البكاء الذي نهى عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>