للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان ذلك أيضا مظهرا من مظاهر رحمة النبي (ص) وتصديقا لقوله تعالى: {عزيز عليه ما عنتم}.

٣ - كانت غزوة الطائف مع من وقع معهم قتال شديد في حنين والأوطاس، وكانوا قد تحصنوا في الطائف بعد انهزامهم في الموقعتين، وكانت قوتهم العسكرية شديدة، فحاصرهم النبي (ص) أياما، فلما بلغه أن الحصار اشتد عليهم وكادوا أن يموتوا جوعا أمر (ص) بفك الحصار فقال له الصحابة معلنين عن وجهة نظرهم العسكرية: إن الفتح قريب، ولكن النبي (ص) أصر على أمره، رحمة منه، ففك الحصار، وهذا هو النموذج الثالث لتحقيق قول الله عز وجل: {عزيز عليه ما عنتم} (١).

وتدل هذه النظائر - وأمثالها كثيرة - على أن قلب النبي (ص) الرحيم كان يرق لحالة أعدائه السيئة فلم يكن يتحملها. ورحمته (ص) للمسلمين بلغت غايتها، فإننا نجد في العبادات والمعاملات أمثلة كثيرة لعنايته بالأمة وحرصه على أن لا تقع في المشقة.

وهكذا كان يرى راحته في راحة الأمة، وتعبه في تعبها، فقد ورد في البخاري عن ابن حرام وأنس بن مالك عن النبي (ص) أنه قال:

((... فرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت بموسى، قال: فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضع شطرها، ثم رجع (ص) إلى موسى فقال له مثلما قال سابقا، وفعل ذلك مرارا إلى أن صارت خمسا)) (٢).

وهذه الواقعة تتمخض عن نتيجتين:

الأولى: أن النبي (ص) كان في غاية الانقياد والإطاعة لأمر الله تعالى، فلما أمر بالصلوات الخمسين لم يتكلم بكلمة في ذلك.

الثانية: أن النبي (ص) كان في غاية الرأفة بأمته، فلما أخبره نبي مجرب مثل موسى بأن أمته لا تطيق ذلك برزت فطرته الطاهرة الكامنة في قوله تعالى {عزيز عليه ما عنتم} فراجع الله تعالى مرة بعد أخرى، وقد أثمر حسن الأدب هذا والطلب المكرر بتخفيض عدد الخمسين إلى الخمس وبقى ثوابها على ما كان.


(١) البخاري (٤٣٢٥)، مسلم (١٧٧٨)، البداية (٤/ ٣٤٧).
(٢) البخاري (٣٤٩)، ومسلم (١٦٢).

<<  <   >  >>