للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التي دار حولها حديث القرآن الكريم لإثبات قضية المعاد، لا تخرج عن أحد مسلكين اثنين: هما قياس الشاهد على الغائب، وقياس الأولى.

- أما قياس الأولى؛ فقد ورد الاستدلال به كثيرًا في كتاب الله تعالى، وهو كما قال الصاوي: خطاب للفطرة بما استقر فيها أن من قدر على إيجاد الشيء ابتداءً؛ قدر على إعادته من باب أولى، فحقيقة المعاد إعادة للخلق الأول الذي كانت نسبة إيجاده للبارى تعالى من الحقائق الفطرية التي يعدم الشك إليها سبيلًا، مع سلامة الفطرة وبعدها عن شبهات الهوى، وهذا مصداق قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ. . .}.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - في الاستدلال بهذه الآية على ما سبق بيانه: "فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت والبعث، الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى، فهما نظيران في الإمكان والوقوع؛ فإعادتكم بعد الموت خلقًا جديدًا، كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها" (١).

وكذلك قوله تعالى ردًا على منكرى البعث: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: ٤٩ - ٥١].

وكان استفسارهم عن موعد البعث بعد إقامة الحجة عليهم في إمكان وجوده؛ دليلًا على إقرارهم بإمكانه، وإن لم يصرحوا بذلك؛ نتيجة لما أعمل في قلوبهم من أدواء الكبر والبغى بغير الحق، وإنما أعرضوا عن الإذعان لهذه الحقيقة، كما أعرضوا عن الإيمان بصدق المصطفى - عليه الصلاة والسلام - مع كونهم قد أطبقوا على أحقية ذلك في قرارة أنفسهم.


(١) إعلام الموقعين, لابن القيم، (١/ ١٤٠).

<<  <   >  >>